كان رئيس تحرير “السفير” طلال سلمان ضيف الشرف أمس الأول في الحفل الشهري الذي تقيمه دار الندوة.
مناسبة كهذه، منالطبيعي بالإضافة إلى لمساتها الشخصية في الكلمات المتبادلة بين رئيس مجلس إدارة الندوة منح الصلح (نشرت “السفير” كلمته في عدد الأمس) وبين سلمان، أن تتحول إلى عملية تقييم لموقع الصحافة اللبنانية المحلي والعربي، وإلى “تاريخ المخاطر: التي هددتها وتهددها بصورة خاصة هذه الأيام.
هنا نص مداخلة سلمان.
محرجة هي الخطابة لأهل الكتابة عموماُ، فكيف في الحميم من اللقاءات كهذا الغداء العائلي الذي سيفسده تهيب الخطيب وقوفه أمام جمهور جله من الكتاب والخطباء والنقاد المحترفين، مداورة ومواجهة، وعبر “إنما” الشهيرة التي تسقط الممتدح شهيداً في الغيبة كما في الحضور.
ومربك هو التكريم بما هو تنبيه إلى استطالة الرحلة، خصوصاً وإننا لم نتعوده للأحياء منا إلا مع قياداتنا التي لا تموت والتي تمتدح ذاتها إناء الليل وأطراف النهار، باسمنا وبالنيابة عنا وبموجب وكالتها الأبدية المطلقة.
أما بالنسبة للعاديين من أهل حرفة الكتابة ومن أصابتهم لوثة الأدب ومن وفر لهم زمانهم فرصة أن يبدعوا ما يبقى، فلم نتعود حيث التكريم إلا بصيغة الماضي وباستهلال من نوع “وكان رحمه الله…”.
على أن الدعوة الكريمة نفسها فرضت علي الانتباه إلى أن الرحلة طويلة فعلاً، وإنها تقترب منإكمال عقدها الرابع، أكثر من نصفها قليلاً في “السفير”، أما السبعة عشر عاماً الأخرى فمتناثرة حبراً على ورق “الحوادث” و”الأحد” و”دنيا العروبة” التي سرعان ما وأدها أصحابها في الكويت و”المحرر الأسبوعي”، ثم “الصياد”، ومعها “الأنوار” و”الأحد” ثانية ومعها “الكفاح”، فالصياد مرة أخرى، ثم “الأحد”، ثم “الصياد”، و”الحرية” و”اليوم”، ثم “الحوادث”، فالصياد و”الأحد”، فعودة أخيرة إلى “الصياد”، قبل دخول مرحلة الجنون الكامل بتحمل المسؤولية عن إصدار صحيفة عربية يومية بينما يضع العدو الإسرائيلي يده على الأيام العربية جميعاً.
ولعل بين ما يشعرني بطول الرحلة أن معظم من عملت معهم أولهم وتتلمذت عليهم في تلك المؤسسات قد غادروا عالمنا هذا، فبات لزاماً علينا ألا نذكر إلا محاسنهم، وأن نرجئ الحديث الآخر الأكثر إمتاعاً إلى لقاءات غير رسمية!
أما ما يهون علي الأمر هنا فهو أن بعض من أخذت عنهم، قراءة أو بالاكتساب غير المباشر، ما زالوا يعطون وينتجون ويحلمون بالغد الأفضل.
ولعل ابتعاد الغد الأفضل يمدنا بالمزيد من الأمل… وأملنا الآن بلا حدود لشدة يأسنا من الحاضر!
وليس مما يسعد أن تكتشف، فجأة، إنك قد صرت من الماضي وفيه، وإنك لست من أهل المستقبل الذي طالما بشرت به،
وإن للمستقبل أهله (الغرباء عنك بنسبة ما) ولك ماضيك فقط،
كذلك فليس مما يبهج أن تنتهي الرحلة إلى غير الهدف الذي اتخذته واستحقت من أجله التضحيات… بمعنى أن ينقضي العمر الأول مسحوقاً بين الأمنيات والممكنات ثم تكتشف أن ليس من عمر ثان لإنفاقه على اختراق المستحيلات، التي خيل إليك في فترة إنك قد اخترقتها فعلاً.
على أننا لسنا الماضي تماماً، ولا نرضى بأي حال أن نكون هذا الحاضر أو أن يكوننا، ومن المتعذر أن نعيد صياغة المستقبل، بينما لعبة السياسة الجهنمية لا تنفك تحول الحقائق إلى أحلام يقظة وتفرض الأوهام حقائق بقوة الهزيمة التي نلطفها فنسميها الأمر الواقع أو باسم الدلع الشهير: الواقع!
أيها الأصدقاء في دار الندوة،
لأن واحدنا يحس هنا وكأنه اختلى بنفسه يتخذ الحديث سياق الاعتراف، في الشخصي من الشؤون كما في العام.
وبين اعترافاتي أن رحلتي مع الصحافة وفيها هي عمر الصداقة مع عميد هذه الدار منح الصلح.
كانت “الحوادث” حديثة الصدور، لكنها صارت “حدثاً” عندما شقت طريقها إلى المعارضة مغادرة إعجاب صاحبها الراحل بالررئيس آنذاك كميل شعون، ومستعيدة أحد أكفأ من عرفت من العاملين في الصحافة اللبنانية: شفيق الحوت.
ولم يكن منح الصلح موظفاً فيها. ولكنه كان حاضراً أكثر من صاحبها ومعظم العاملين فيها.
كان يكتب بالأسماء جميعاً إلا اسمه، في المحليات كما في العربيات، وكان يقترح موضوعات لغيره، وكان يشارك في إعطاء: الأفكار لرسام الكاريكاتور نيازي جلول وفي توجيه القهوجي إلى أفضل طريقة لصنع الشاي، ثم يمضي إلى مطعم فيصل يبشر بما سيطرحه أولئك الزملاء من أفكار جديدة.
ولقد أخذت عن “البيك” ألا أكتب في ما لا أعرف، وأن أقرأ أكثر مما أكتب، وأن أتقن فن الاستماع إلى من يخالفني الرأي، ثم أن اختار اللفظة بدقة من ينقش قصيدة على حقبة أرز.
كذلك فقد تعرفت من خلال منح الصلح على لبنان السياسي، بنظامه الذي كنت أرفضه بالمطلق، واضطررت للاعتراف له بمزايا لم أجدها في غيره من الأنظمة التي كانت شعاراتها تستهوينا.
ومن حق منح على جيلنا أن نعترف له بالتأثير علينا، بالسلب أو بالإيجاب، وأن نذكر له أن صحح الكثير من مفاهيمنا عن السياسة اللبنانية بتراثه العائلي والشخصي الغني، في أطوارها المختلفة والحافلة بالغرائب والعجائب.
و”البيك” معتدل مع الثوريين، ربما ليوازن كفة العقل بالحماية، وثوري مع المعتدلين، ربما لكي يدفعهم إلى النضال من أجل التوازن ومنعاً للسقوط في هوة التفريط بما لا يجوز التفريط به.
و”البيك” لبناني بين العرب، عربي بين اللبنانيين: يحاول ترشيد أولئك إلى ضرورة لبنان وأهمية الحفاظ عليه ليس فقط كواحة ورئة لتنفسهم، بل أساساً كرمز لنجاح عربي في المهمة الأصعب، التصالح مع الذات، واعتراف الأمة بعناصرها جميعاً، واستعادتها أقلياتها إلى أحضانها بدل أن تظل عند حماتها الأجانب بذريعة أن العرب عنصريون لا يعترفون بأخوتهم من الكرد والتركمان والبربر والكلدان والآشوريين والسريان والزنوج، ولا يعترفون خمن الأيدان إلا بالإسلام ومن الإسلام إلا بمذهب واحد، أو بطريقة في مذهب تكاثرت طرقه.
وباختصار فإن منح الصلح يؤمن بأن لبنان قادر على استيلاد أنقى صورة للإسلام، وكذلك أنقى صورة للنصرانية، ومن خلالهما أنقى صورة للعروبة والقومية والوطنية وحتى التقدمية.
إن لبنان مطهر، من نجح فيه لم يفشل في أي مكان آخر، ومن فشل فيه فلا نجاح له حتى في بيته.
وبين القادة العرب الكثر، فإن الذاكرة اللبنانية هي التي حفظت أسماء الناجحين القلة، وأعظمهم بالتأكيد جمال عبد الناصر، ولكنها حفظت إلى جانبه أسماء سعد زغلول ومكرم عبيد ومصطفى النحاس وأحمد حسين والأمير عبد القادر الجزائري والأمير عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي والمهدي بن بركة وعمر المختار وعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وصديق شنشل وكامل الجادرجي ومحمد حديد وشكري القوتلي وسعد الله الجابري وإبراهيم هنانو، وأبو جهاد خليل الوزير وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وأبو علي أياد، وغسان كنفاني ومن قبلهم الحاج أمين الحسيني وأبو حسن علي سلامة وعبد القادر الحسيني وعز الدين القسام.
وحافظ الأسد يحتل الآن مكانة مميزة فيه بقوة الإنجاز القومي وقوة العروبة في لبنان وليس بقوة العسكر السوري في لبنان.
أيها الأصدقاء.
يؤسفني أنني أتحدث بصيغة الماضي، وذلك يرجع لتأخرنا في السياسة وليس لتقدمي في العمر.
كان لنا الشارع، فباتت لنا فيه “زوايا” أو “أركان”، لها عناوين وأسماء لإثبات التمايز وشيء من الغربة… وأيضاً لتوكيد الثبات على الموقف.
وإننا نعترف أننا نحن الذين نتلاقى اليوم هنا، وبكل من وما نمثل، أقلية، عدداً وعدة، لقد خسرنا، وجاءت لحظة الحقيقة لنعترف أننا لم نكن مجرد ضحايا. خسرنا لأننا لم نكن في مستوى النصر. لم نستطع أبداً أن نصل بقدراتنا إلى مستوى أمانينا، وأن نتحمل من المسؤولية عن تحقيق الشعار ما كانت تفرضه المعركة لتحويل الشعار إلى قرار.
وسهل الآن أن نجلس لنأكل الهتنا، وأن نلقي عبء الفشل كاملاً على قياداتنا التاريخية التي ضلت الطريق إلى الديموقراطية فخرجت من الثورة إلى الدكتاتورية ومن صوفية الشعور القومي لتخضع لجلافة الأمر الواقع القطري.
لكن هذا يعني أن حضورنا لم يكن في المستوى المطلوب.
ومن لم يستطع أن يواجه قيادته ومن موقع الحب والإيمان لا يستطيع أن يواجه عدوه القومي في معركة الوجود.
لعلها الثقافة، لعلها الخبرة، لعلها المعرفة بالدنيا وأحوالها. لعله النقص في المعلومات عن الذات ثم عن العدو.
لعله ذلك كله.
واعترف على سبيل المثال أن كثيراً مما كتبناه عن عبد الناصر والبعث والقومية العربية كان إلى الشعر آقربن وأن على جفاء مع الرقم والمعلومة الدقيقة والتحقيق الذي يربط بين الممكن والمأمول. وإن كل ما كتبناه عن إسرائيل كانت تنقصه الدقة والمعرفة التفصيلية، فظل الانبهار أو العمى هو السيد، وظللنا أسرى الدهشة بالمفاجأة والغربة عن الواقع.
وبالنسبة لجمال عبد الناصر، مثلاً، فإننا في لحظة اعتبرناه الزعيم المعلم، واعتبرنا أنفسنا في ذروة الكمال… وفي لحظة أخرى حطمناه منحدرين إلى وهدة المذلة والشعور بالهوان المطلق.
ولم نكن منصفين في الحالي،
وأخشى إننا لم نصل إلى قدر من النزاهة وإنصاف الذات يجعلنا نفهم ما يجري لنا ومن حولنا الآن: هل ضاعت فلسطين حقاً؟! هي هي الخيانة هذه التي تتم أمام عيوننا؟! وهل كنا على خطأ حين رفضنا المساومة أم الخطأ في إننا لم ننجز التحرير؟ّ! هل كان العيب في الثورة أم في الثوار، في الاشتراكية أم في الاشتراكيين؟ في العروبة أم في البعثيين والقوميين العرب والناصريين إلى آخر التشكيلة من الانشقاقات على الذات.
هل كان خطأ أن نسلس قيادنا للزعيم بلا مساءلة؟!
أم أنه افتقاد العادة إلى الحوار وتقليد محاسبة الذات، والقائد هو في مفهومنا الشرقي كمال الذات.
وعندما اكتشفنا الحزب ودخلناه أسبغنا عليه كل الأسماء الحسنى التي للزعيم، و أسقطنا عليه مفهومنا الشرقي إياه، فإذا هو كمال الذات…
ثم جاءت لحظة التشظي حين جعلنا الحزب في وجه الزعيم، وها نحن الآن بلا قائد ولا قيادة، لا زعيم ولا زعامة، ولا تنظيم من أي نوع يشد شتات الوطن أو يحمي العلاقة بين الوريد والوريد.
وفي ظل الحماسة، جعلنا القضية فوق الشعب وهمومه اليومية، ومنفصلة عنها، وأجبرناه في لحظات قاسية أن يفاضل بينها وبين نفسه، وها نحن الآن بلا قضية، بلا رباط مقدس، والأمة أرخبيل من الجزر النازفة، لا يهتم أحد هنا بما يجري هناك والعكس صحيح. فوجع اليمن يستنزفها فلا تعنى بأن تعرف الكثير عن وجع الجزائر، وهموم العراق أثقل من أن تبقى له متسعاً للتفكير بهموم المحاصرة الأخرى ليبيا، وكل مستنزف يطلب الحياة ولو على خازوق هرباً من الموت فوقه.
بل إن كل مواطن عربي محاصر.
تحاصره إسرائيل من الخارج بقوتها ومن الداخل بعجزه عن مواجهتها.
ويحاصره نظامه بالتعتيم المفروض من الخارج، كما بالصمت المفروض من الداخل،
ثم تتولى هموم حياته اليومية إنهاكه بحيث لا يتبقى من سبيل غير الاستسلام؟
ما المخرج؟!
ومن يعيد اللبنة الأولى لبناء جديد، بناء فكري – سياسي – ثقافي – اقتصادي – اجتماعي جديد؟!
من يبدأ الخطوة الأولى على طريق ترميم سلم القيم الاجتماعية، أو ابتداع سلم جديد أكثر تلاؤماً مع الواقع وأكثر نفعاً لنا في حياتنا اليومية؟!
من، ومتى، وأين؟!
بيروت ترفع الصوت بالسؤال
بيروت تفتقد نفسها، كما أي عربي آخر،
ولعل علينا أن نبدأ من حيث تكمن البداية… من هذه الأميرة التي اسمها بيروت.
وافترض إننا جميعاً نكاد ننكر هذه البيروت بقدر ما نجد من حقها أن تنكرنا.
إننا نتساءل: أين هي تلك التي تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء، وننسى دورنا في حماية شرف صمودها.
نحن من غاب فغيبناها.
بعضنا تقاعد يائساً، وبعضنا أخرجه اليأس إلى منافي الشقاء، ومن لبث ينتظر أوكل قراره إلى صاحب القرار مكرراً التجربة البائسة فإذا جاءه نصيبه من السلطة استمر صامتاً، وإذا لم يجئه دار يهمس بالنقد حيث المجالس بالأمانات، ملغياً دوره التاريخي في نصرة أخيه الظالم برده عن ظلمه.
لقد كنا بيروت، منتدى العرب الفكري وشارعهم الوطني، مطبعتهم والكتاب وصحيفة الصباح، أرض التلاقي والصراع بين التيارات المعبرة عن قلقهم وبحثهم الدؤوب عن صورة غدهم الأفضل.
وها هي بيروت اليوم تكاد تكون خرساء، قلبها مهجور بل مبقور مرتين: بقذائف الحرب وصواريخها ثم بشركة النهب المنظم لحقوق أهلها، والتي تكاد تكون حرباً أخرى، على أولئك الذين صنعوا حقيقة الصمود وأهلوا بيروت لدورها التاريخي.
ها هي بيروت بكماء، لا تجد من يدافع عنها كعاصمة للحرية، للديموقراطية العربية، أجهزة أعلامها، مسخرة بمعظمها للجريمة والجنس والعنف والدعاية الصهيونية بعدما حجبت عنها السياسة،
ليست بيروت هذه التي تسكت عن الظلم، وتنساق إلى حماة الطائفية بذريعة الخلاص من الحرب، أو تسلم قيادها للطغمة المالية بحجة إنقاذها من وهدة الفقر التي دفعتها إليه هذه الطغمة نفسها بالتحالف مع أمراء الحرب.
لعل إنقاذ بيروت، بيروت الحرية والعروبة والديموقراطية، بيروت الكتاب والأعلام والمنتدى والشارع القومي، هي المهمة الأولى لنا جميعاً.
والشرط الأول أن نعود إلى الشارع وأن يستعيدنا.
أن نرفع الصوت باللا المقدسة حين يتوجب إطلاقها كالفجر الباهر.
ولعلنا لا نستطيع أن نقدم خدمة قومية أجل لسوريا، قلعة الصمود الأخيرة، من إعادة بعث بيروت التي كثيراً ما استحضرت في ذاتها دمشق والقاهرة وبغداد، صنعاء وطرابلس والجزائر والخرطوم والرباط، وقبلها ومعها جميعاً القدس الشريف.
إن المهمات ثقيلة، عديدة ومتشعبة ومعقدة، والقادرون من المتطوعين قلة ثم أنهم ليسوا جميعاً من المؤهلين.
ثم إن مبررات الاستسلام لا تقع تحت حصر… وهي مفحمة لمن يشكو من نقص الإيمان بالذات أو بقدرات الآمة.
يقول الذين كانوا خارج الثورة، وغالباً في مواجهتها: لقد أنهكتنا ثوراتكم… وهذه هي النتيجة!
ويقول الذين عاشوا العمر يقاتلون العروبة: هذه نتائج ادعاءاتكم وأوهامكم تفضلوا إلى القفص! أنتم المتسببون فلا تلوموا أحد خارجكم!
ويقول الذين نقضوا العهد ما إن وصلوا على السلطة فارتدوا ليحطموا رايات النضال وشعاراته: لقد وصلنا، إذن فانصرفوا واتركوا الأمر لأولي الامر. هل تزايدون علينا؟! إننا القيادة الآن، فارتاحوا وإلا…
ويقول الذين قاتلوا بضراوة حتى لا ينجح التطبيق الاشتراكي: هذا مصير من يخرج على الدين الحنيف. لقد كفرتم، وها هو الله ينتقم منا لأننا عصيناه.
ويقول الذين لم يسلموا يوماً بحق الناس في أن يعرفوا وفي أن يعبروا عن أنفسهم وفي أن يختلفوا مع حاكمهم متى اخطأ: هذه ثمار فوضاكم المرة! لقد جعلتمونا ساحة مفتوحة لكي شذاذ الآفاق، فارتاحوا قليلاً ودعونا ننظم أمورنا لكي تستطيعوا من بعد أن تمارسوا الحرية!
إن الأحزاب والتنظيمات القومية تندثر في غياهب السلطة التي ظلت قطرية وغير ديموقراطية حتى في أعز أيام دولة الوحدة.
والمؤسسات ذات التوجه القومي والتي كانت تعتبر مداها بغير حدود، ينداح بين المحيط والخليج، تفتقد الآن جمهورها والطريق إلى هذا الجمهور المتصاغر والمتقلص عدداً ونفوذاً وقدرة على حمايتها.
والصحافة العربية إلى انقراض: فالخيار بين أن تكون صحيفة محلية جداً بحيث تغرق في المستنقع الطائفي أو المذهبي أو الجهوي، أو تكون صحيفة شرق أوسطية يحرر أخبارها اليهود ويمولها السعوديون ويشرف على سياساتها أحد “الخويان” أو من ينتدبه.
والعرض مفتوح لكل راغب في أن يتحول من صاحب رأي إلى شاعر في بلاط السلطان ومن أسف أن كثيرين قبلوا هذا العرض، فصاروا سيافين وجلادين لرفاقهم القدامى.
والمهم أن نفكر للغد، وأن نستعد للغد.
ولعلنا بإيماننا الراسخ ومنه نستمد إيماننا بأنفسنا، أقدر على المواجهة من آخرين أكثر شباباً وأغنى مالاً وأقل ارتباطاً بهذه الأرض وإنسانها.
المهم أن نتجدد عبر أجيالنا الآتية، وأن نتركهم يجددون، فلا نحجز على فكرهم، ولا نتخلى عنهم إن نحن افترضنا أنهم اشتطوا، ولا نيأس فنتهاوى في لجة التقاعد والموت معزين النفس بأننا نستطيع أخيراً أن ننام.
هل تراني، أيها الأصدقاء، أفسدت المناسبة الطيبة بحديث لم يفعل غير التذكير بمآسي الماضي وهموم الحاضر والتخوفات المشروعة على المستقبل؟
… ولكنني وجدتها مناسبة لآمر آخر: أن نواجه الأسئلة الصعبة وأولها وأخطرها إلى أين من هنا؟!
في هذه القاعة ووسط هذه النخبة من أصدقاء العمر رفاق السلاح (ولا سلاح) يمكن فقط أن نتصارح، وأن نفكر معاً في كيفية الخروج من المآزق، بل في كيفية حفظ النوع… ألسنا مهددين بالانقراض؟!
لنفكر كيف تسترد الأقلية أكثريتها،
لنفكر كيف ننقذ من وما يمكن إنقاذه،
لنفكر كيف نخرج من صنمية الماضي وقداسته المزورة إلى الجدل، إلى الحوار الصحي، ثم إلى العمل لنحمي مكاناً لأبنائنا في مستقبلنا.
هل نملك الفرصة بعد؟!
نملك أن نحاول، فذلك أفضل من أن نظل نردد: قلت فلم يسمعوا لي.
وذلك أفضل قطعاً من أن نقول: لا أمل، ما في فيش فايدة، فلماذا المحاولة؟!
لنحاول، فلا شيء مما يفعلونه ثابت وشرعي ومشروع. وهم يعرفون هذه الحقيقة أكثر منا، ولذلك فهو خائفون برغم صمت الأكثرية، من هذه الأقلية في ما لو قالت ما لا بد من قوله.
وختاماً لا بد من توجيه الشكر لكم جميعاً على صبركم، مع تخصيص معن بشور بالتحية لأنه ألح فورطني بقدر ما ورطكم.
بل ربع قرن تعرفت إلى هذا المبادر الحاضر الناظر ذي الطاقة الخرافية مالئ الأزمنة والأمكنة معن بشور، ومنذ العام 1968، حيث التقيته لأول مرة وفي مجلة “الحوادث” أيضاً. وحتى تاريخه يفرض علي كما عليكم أن نلتقيه ألف مرة في اليوم: منظماً، محرضاً، كاتباً، خطيباً، مكراً مفراً مدبراً مقبلاً معاً، ومنشئ البيان الذي لم يقرر احد غيره إصداره لكن أحداً لا يستطيع رفضه مستشعراً الخجل لأنه قد نسيه أو تناساه.
إنه مضخة للأمل، وهي ما تزال تعمل بكامل طاقتها برغم الجو الإرهابي الذي اكتسبه وزير الدماثة والرقة والتفكير العميق إلى حد التردد، بشارة مرهج من الداخلية، فارضا علينا منع تجول الأفكار والآراء والكلمات حتى لا ستفيد المتربص بنا في الخارج.
حمى الله دار الندوة والقيمين عليها
حمى الله “السفير”،
حمى الله بيروت – الأميرة،
حمى الله كل من يحاول التغيير بسيفه أو بيده أو بلسانه أو بقلبه وهذا ما نفعله نحن جميعاً متمنين أن تدوم علينا نعمة أضعف الإيمان.
والسلام عليكم مع الاعتذار عن الإطالة والتسبب في سوء الهضم.