دستور، دستور… دستور من خاطرك يا دستور!
فجأة تعالت صرخات الغضب ونداءات الاستغاثة وشهقات الاستنكار: إنهم يريدون المسّ بالدستور! إنهم سيغتالون الدستور جهاراً نهاراً! إنهم سينسفونه برزمة من التعديلات التي تجعله أثراً بعد عين!.. إنهم سيسقطون هيبته التاريخية وجلال النصوص التي تطلبت أسابيع من المناورات والمقامرات والمسامرات والمسايرات والمؤامرات (البريئة!!) في الطائف حتى تمّ هذا الإنجاز الفقهي الاستثنائي الذي إن سقط منه حرف أو أضيف إليه حرف ذاب كما الصابون، واختلت التوازنات جميعاً فاشتعلت حروب الطوائف مجدداً!
فجأة، تمّ القفز من فوق كل الأزمات الاقتصادية الخانقة والمشكلات الاجتماعية المتفجرة والارتكابات الإدارية الفضائحية ولم يعد يشغل بال »السياسيين بالتعيين« إلا حماية الدستور من خطر التمديد القاتل للديموقراطية والحريات والإصلاح والمؤسسات التي من دونها لا تكون الدولة دولة!
ولو أن الموضوع هو، بالفعل، الدستور وضرورة حمايته وتوكيد حصانته في مواجهة محاولات المسّ به وإخضاعه لمصالح هذه الفئة أو تلك من الذين أقطعوا الحكم رئاسات ووزارات ونيابات وإدارات منذ دهر، لتوجب على اللبنانيين أن يهبوا جميعاً لنجدة الدستور والتصدي لمن يستخدمونه أداة لتحقيق أغراضهم ومطامحهم الشخصية.
لكن »الدستور« ليس هو الموضوع، في حقيقة الأمر، وإن كان يفيد كسلاح فعال في الحرب السياسية الدائرة حالياً تحت عنوان »العهد الجديد«، عشية النهاية الطبيعية »لعهد« الرئيس إميل لحود في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني المقبل.
فمنذ ثلاثة شهور وأكثر، وإلى ما بعد ثلاثة شهور وأكثر، يريد الطاقم السياسي، الطارئ بمعظم وجوهه على الحياة السياسية، والذي أتى محمولاً على »جرافة« أو في »بوسطة« ولم يتعرّف على، كما أنه لا يعترف بالانتخابات والأصوات إلا »معلبة« أن يحاصر اللبنانيين المسحوقين بأزماتهم الاقتصادية الاجتماعية داخل سجن كلمة »التمديد«.
إن هذه الكلمة »التمديد« سحرية المفعول. إنها تكاد تختصر في هذه اللحظة، أنماطاً مستحدثة من عمليات الابتزاز السياسي.
ولقد فوجئ المواطن المطحون بهمومه اليومية الثقيلة، وبموازاة الكشف »المنهجي« عن فضائح الهدر والسرقات العلنية والإثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة العامة، بأن عليه أن ينسى بؤس حاله وقلقه على مستقبله لكي يجيب على سؤال لم يكن يفترض أنه مطروح عليه، خصوصاً وهو يعرف أنه ليس مرجعه، ونصه التالي: هل أنت مع التمديد لرئيس الجمهورية أم ضده؟ هل أنت مع تعديل الدستور أم مع حمايته من أي مسّ به؟!
إن أنت ترددت في الجواب، أو حاولت التدقيق في شخصية من يسألك وأغراضه، أو تساءلت عن أسباب طرح السؤال، أصلاً، كرز عليك »المعنيون« محاضرات تقرعك على استهانتك بالدستور، وبالتالي على عدم إيمانك بالديموقراطية، وعدم توقيرك اتفاق الطائف بمواده الميثاقية والمواد الأخرى (الإجرائية)..
حسناً، فلنضع جانباً الموقف المبدئي الحاسم القاطع برفض أي تعديل للدستور لمصلحة شخص أو أشخاص، ولندقق في بعض ما أحاط ويحيط بهذا الجدل المبكر (والمفتعل) حول الدستور، ومن ثم حول »التمديد« ولو كاحتمال:
؟ فجأة، تمّ فتح »ملفات« كانت مطوية، وأثيرت »فضائح« في مؤسسات وإدارات كانت منسية.
ومع أن »الملفات« ستطوى مجدداً، و»الفضائح« ستنتهي (في أحسن الأحوال) بطرد بعض صغار الموظفين الذين لا سند لهم بين »الأقوياء« ممن لا يطالهم حساب، فإن الغرض السياسي تبدى واضحاً من اختيار »ملفات« بعينها من بين أكوام الملفات المنتنة، و»فضائح« محددة من بين عشرات »الفضائح« التي سار بحديثها الركبان.
ولقد جاء الرد عنيفاً من طرف »الكبار« المعنيين بالفضائح، فمنعوا »المتهمين« من الذهاب إلى القضاء، أو أنهم منعوا القضاء من إكمال مهمته الطبيعية، ملوحين بأن الوصول بالتحقيق إلى نهايته المنطقية قد يؤثر سلباً على موقفهم من التمديد!
؟ إن بعض الأكثر تطرفاً اليوم في الاعتراض على تعديل الدستور من أجل التمديد أو التجديد كانوا هم هم طليعة المندفعين إلى تعديلين بدلاً من تعديل واحد للدستور، قبل تسع سنوات.
وعلى بلاغة حجج هؤلاء »الأقطاب« التي يقولونها بلسان »من معهم« فمن حق الناس مساءلتهم عن أسباب اختلاف مواقفهم اليوم عنها بالأمس، وأين كانت »مبدئيتهم« يومذاك؟!
… خصوصاً أن الفوارق بين شخصيتي الياس الهراوي وإميل لحود لا تبرر هذا الانقلاب السياسي الذي يُراد اليوم أن يموّه نفسه بالموقف المبدئي..
؟ إن المسؤولية عن تردي الأوضاع، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، هي مسؤولية مشتركة.. والطاقم الحاكم يكاد يكون هو هو في العهدين وفي فترة التمديد بينهما.
… مع فارق جوهري هو أن التمديد السابق كان للكل معاً.
أما اليوم فيتصرف معظم السياسيين المحترفين وكأن التمديد، إن وقع، سيكون لواحد أحد، وعليهم التحوّط ألا يتم على حسابهم، وبالتالي فهم يتخذون واحداً من موقفين:
الأول هو استدراج عروض تحدد لهم موقعهم، إذا ما كان قرار صاحب القرار بالتمديد، بما يضمن لهم أن يكونوا شركاء المستقبل بالرضا، وليس كما كانوا شركاء الماضي بالإكراه.
أما الثاني فهو السعي لجعل التمديد مستحيلاً، بحيث يتخلصون من هذا الشريك القوي الذي فرضه تعديل أول للدستور فصار رئيساً، وقد يفرضه التعديل الثاني رئيساً بغير شريك، بما يطلق يده في الانتقام، وهو منتقم جبار، كما خبروه!
؟ يتصل بذلك ان »اقطاب« النظام هم اطراف ثابتة في معادلة السلطة بلا انقطاع فعلي.
لقد كان هؤلاء شركاء أقوياء لهم حق الفيتو في مجالس الوزراء المتعاقبة…
وحصر علة انعدام الانجاز أو تعثره في شخص واحد، ولو كان رئيساً للجمهورية والعجز عن مواجهة المشكلات والأزمات المتلاحقة التي تعصف بسمعة لبنان وأرزاق اللبنانيين وتشرد أبناءهم في أربع رياح الأرض بحثاً عن عمل، كل ذلك مغالطة لا يقبلها عقل.
ان كل من شارك في الحكم شريك في المسؤولية.
ويطول الجدل حول العذر القائل بأن شريكاً واحداً، من هؤلاء الشركاء، قد تحكم باللعبة فمنع شركاءه من ممارسة مسؤولياتهم… فمعظم الشركاء قد حققوا اغراضهم وحصلوا على الكثير من المنافع والخدمات التي يتيحها الحكم، بل التحكم، في غياب أي محاسبة جدية، سواء عبر القنوات الطبيعية (البرلمانات) أو عبر اللجوء إلى الشارع، وهو فارغ غالباً ومفرغ ممن اعتادوا اللجوء إليه بالقصور الذاتي.
ان الطاقم الحاكم في البلاد هو هو تقريباً، منذ اثني عشر عاماً، وعندما توارى الياس الهراوي، بعد ولاية وتمديد، لم تختلف الحال كثيراً إلا إلى الأسوأ.
وبالتالي فإن كل ما ينسب إلى »العهد« من اخطاء وخطايا ليس من صنع واحد أحد، بل هو من مسؤولية أقطابه جميعاً، الظاهرين في الصورة أو المستترين خلف »من يمثلهم«.
؟ ولقد كان بين أسباب التأييد الواسع للعماد اميل لحود عند انتقاله من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية، بتعديل خاص للدستور، أنه قد يحجِّم أو يحاصر تمدد »الأقطاب« وسيطرتهم على الإدارة وتحكمهم بالقرار المالي قبل السياسي.
لكن تلك التجربة قد فشلت، بشهادة الأوضاع البائسة التي تعيشها البلاد الآن، على شفا الافلاس، مع انتفاء القدرة على محاسبة أي من المتسببين في ما أصاب اللبنانيين من إفقار ويأس وبؤس دفع بالكثرة من المؤهلين من بينهم إلى طلب الرزق في أقصى الأرض، ولو على حساب كرامته الشخصية وسمعة وطنه.
ولا يمكن حصر أسباب الفشل في شخص واحد، ولو كان رئيس الجمهورية، خصوصاً ان صلاحياته المحددة بدستور الطائف تجعله »متقدماً بين متساوين« وليس »صاحب القرار«.
… فضلاً عن ان رئيس الجمهورية قد طلب فنال نصيبه من السلطة الاجرائية، فكان له وما زال له وزراؤه، وفقد امتيازه عليهم بأنه »لا يطلب شيئاً لنفسه«.
* * *
على هذا فإن شعار »حماية الدستور« يكاد يتحول إلى ما يشبه حماية العجز وسوء الإدارة والفساد، كما تدل الفضائح المتعددة والمكلفة التي تكاد تودي بالدولة ومؤسساتها، وليس بأهل الحكم فيها.
لكأن واحداً فقط في طول البلاد وعرضها هو المسؤول عن تفاقم الدين العام الذي وجدنا من يصارحنا بأنه مرشح للتفاقم المرعب، إذ سيزيد من 35 ملياراً إلى 45 ملياراً خلال ثلاث سنوات هي سنوات التمديد لو انه تم.. بالفرض! وعن شلل الإدارة، وعن الفساد الذي يكاد يصبح من المعالم السياحية للبنان الجميل، وعن الارتكابات التي يطول شرحها في »المجالس« ذات الموازنات المحترمة، وعن انقطاع التيار الكهربائي في البلد الذي دفع أغلى فاتورة لمولدات خربة، ولمحطات بنيت خطأ أو انها لم تكتمل تجهيزاً، وعن »الرشى« التي دفعت وتدفع من خزينة الدولة في أسعار المشتقات النفطية أو في النقل العام، أو في كازينو لبنان الذي تم السكوت طويلاً عن أوضاعه المغلوطة ثم تم تفجيرها في الوقت المناسب.
لكأن واحداً فقط، هو »المتحرك بين ثوابت«، على عكس ما كانت عليه الحال قبل اتفاق الطائف ودستوره إذ كان رئيس الجمهورية هو الثابت الوحيد بين متحركين (برغبته أو بإرادته)، وهو الأقل مساحة في صلاحياته (الدستورية)…
لكأن هذا الرجل الفرد هو المسؤول الأوحد عن الفساد والغلط، ولكأن الباقين جميعاً أبرياء وأطهار أبرار…
وليس ذلك صحيحاً بالمطلق، وبغض النظر عما تضمنته رسالة القسم من تعهدات ثبت أنها مستحيلة التنفيذ، فضلاً عن كونها من خارج النظام الديموقراطي، ومن خارج قدرات الأفراد، من قبل ومن بعد.
* * *
خلاصة القول ان ليس في البلاد مؤسسات ديموقراطية تحمي الدستور وتضمن محاسبة من يخرج عليه، أو من يستغل منصبه الرسمي لأغراضه الخاصة… إذ لا يخالف إلا »الكبير« المحصن والمحمي بهذا أو ذاك من »الثوابت«.
لم يكن ثمة مؤسسات في »العهد الماضي«، ولا لدينا »مؤسسات« الآن تحمي الممارسة الديموقراطية وتحاسب على الغلط ان هي لم تمنعه قبل وقوعه.
ولن يكون لدينا مؤسسات في المستقبل، إذا ما استمر »الثوابت« في مواقعهم جميعاً ما عدا »المتقدم بين المتساوين« فيهم، بغض النظر عن شخصه.
والعلة ليست في الدستور، بنصه او مع التعديل المفرد أو المزدوج.
من هنا يتبدى الجدل حول تعديل الدستور وكأنه يستهدف طمس مسؤولية المسؤولين عن الغلط وشطب احتمال المحاسبة، أكثر مما يستهدف حماية الديموقراطية ونظامها الفريد لأصحابه من »الثوابت« الذين يحاولون التخلص من »شريك صعب« أكثر مما يرغبون في اصلاح ثبت انه في لبنان في منزلة ما بين الحلم والاستحالة!ش