إحداهن وقد تجاوزت السبعين أخرجت حقيبة قديمة وفتحتها لتتسلى بمحتوياتها. علقت على ما فعلت بقولها إنها مثل كل من هو في عمرها لم يعد يسليها مشاهدة التلفزيون وبالتأكيد لن يشبعها إن هي فعلت. أضافت قائلة “من التلفزيون ومعه تعلمنا الكثير. أرانا كبرنا ونضجنا، وأراه كبر ولم ينضج. تغير كما تغيرنا. كنا في بيوتنا ونحن صغار نستمع للكبار ونتعلم منهم، أما الآن فصغارنا يتعلمون من بعضهم البعض، بل وكثيرا الذي نتعلمه نحن كبار السن منهم”.
أخرجت من الحقيبة صورا. تسحبها واحدة بعد الأخرى، كل منها تروي لها حكاية أو أكثر. استعادت بها سنوات من الماضي في ساعة أو أطول. لم تمل، فمن الصور ما جلب حزنا خفيفا ومنها ما رسم على شفتيها بسمة جميلة، وكثيرة هي الصور التي خلفت لوعة وشوقا أو تركت علامات دهشة وانبهار. لاحظت أن غالبية الصور لجنس النساء مع أطفالهن أو في جماعات. قليلة كانت الصور لسيدات مع أزواجهن. تذكرت أنها كانت صغيرة عندما جلست مع والدها يتصفحان ألبوما للصور تصدرت صفحاته صورة لسيدة متينة القوام قوية الملامح نفاذة النظرة تقف ممسكة ببندقية قديمة الطراز. سألت أبيها عنها فأجاب في فخر وبصوت يفرض على الصغيرة الاحترام ويضيف لصاحبة الصورة هيبة وربما رهبة. خلا الصوت من مشاعر الحب وهو يقول بالهمس “إنها صورة أمي”. عادت صاحبتنا تركز على الصور باحثة في الحقيبة عن هذه الصورة حتى وجدتها. أمسكت بها وراحت تتأمل في الوجه الذي أثار فيها وهي صغيرة أحاسيس شتى. تساءلت بينها وبين نفسها إن كانت صاحبة الصورة في حقيقتها وعلى طبيعتها مؤهلة للحب أو حتى قادرة على احتضان صغارها. انتهت من هذه الصورة فألقت بها في الحقيبة. عادت أصابعها تقلب الصور وتلتقط ما لمسته بالصدفة.
***
خرجت الأصابع بمجموعة صور لم تحظ بالاهتمام إلا واحدة. كانت لفتاة لا يزيد عمرها عن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، أو هكذا أفصح قوامها ودلت عليه ابتسامتها المترددة. الشئ الذي يلفت النظر إلى الصورة ويكسبها اهتماما فوريا هو هذا الجمال الهادئ والوجه الصبوح. صاحبتنا الباحثة في أوراق وصور الماضي عن مصدر للتسلية وقضاء الوقت توقفت أمام الصورة طويلا تحاول أن تجد في ذاكرتها ما ينبئ عن هويتها. فشلت محاولاتها وتأكدت أن الصورة انضمت إلى محتويات الحقيبة في مرحلة تالية للمرحلة التي كانت تستعين فيها بالوالد أو بغيره للتعرف على هويات أصحاب الصور. استبد بها فضولها فالوجه الذي أطل عليها من الصور أبي ألا أن يسيطر على اهتمامها ووقتها بجمال مكوناته وقوة جاذبيتها. شعرت أن صاحبة هذا الوجه لا بد وأن تمت لها بصلة قرابة أو جيرة. هناك في هذا الوجه ما ينادي متوسلا الاعتراف به طرفا أصيلا في سردياتنا العائلية. يكاد الوجه ينطق مطالبا كل فرد في هذه العائلة التي امتدت شرقا وغربا بأن يأتي بمرآته وينظر فيها ليجد تفصيلا أو آخرا منقولا عن نظيره في هذه الصورة.
صاحبتنا لم تنتظر طويلا. استيقظنا ذات صباح لنجد الصورة على شاشات هواتفنا المحمولة وتحتها رسالة تحمل الأمل أن نساعد في حل هذا اللغز والإجابة عن السؤال “لمن تكون هذه الصورة؟”. هكذا صار انشغال فرد انشغالا عائليا. بعضنا نحى جانبا مشاغله ليهتم وبخاصة عندما ظهر من يجد في العينين أو الشفتين أو في البسمة المترددة أو في الشعر حالك السواد شبها بنفسه أو بمن أنجب. تشاورنا ولم يطل تشاورنا. توصلنا في نهاية التشاور وتبادل المعلومات والذكريات إلى هوية صاحبة الصورة. عند هذه اللحظة تبارى أفراد العائلة في إثراء الاهتمام فألقوا بذكرياتهم.
***
قالت واحدة، كيف لا أذكرها وهي نفسها ولكن بعد مرور سنوات كثيرة على يوم التقاط هذه الصورة كانت تعقد جلسات موسمية لشقيقاتها وحفيدات العائلة الممتدة وجارات لها يقمن أثناءها بتفصيل ملابسنا، نحن الأطفال، لمناسبات العيد والانتقال للمصيف وللأعراس. كانت هذه الجلسات في حد ذاتها مقدمات بهيجة لأيام نقضيها عندها في مرح وفرح وأطايب الأكلات. قالت أخرى، أذكرها مصدرا دائما للقرارات التي تتطلب حكمة واتزان وتوازن. كنت حاضرة بزعم انشغالي بدروسي أتنصت على اجتماع في الغرفة المجاورة انتهي بعقد الصلح ومنع حادث طلاق في العائلة وعادت الزغاريد تملأ أجواء البيت الكبير. قالت ثالثة. نعم أذكر جمالها وهي ترفل في البيت ولا غريب بيننا في قميص نوم من قماش “رمش العين” أو آخر من الساتان أو الحرير الطبيعي. كانت إذا خرجت، ونحن معها، لزيارة جدتنا الكبرى، ارتدت السواد والبالطو الأسود واحتفظت بشعرها طليقا حرا.
رابعة بلغت من العمر مؤخرا ما يناهز الثمانين قالت نقلا عن أمها، إنها سمعت منها أن أباها وكان تاجرا كبيرا حرص دائما أن تكون هذه الابنة صاحبة الصورة في استقباله كل ليلة عند عودته من وكالته. كانت تراجعه عند وصوله إلى حارتهم لتتأكد من أنه أغلق باب الحارة قبل دخوله إلى البيت وأحسن ربط حماره، ولتتسلم منه كيس العملة الذهبية حصيلة أعماله التجارية عن اليوم. كانت هي المكلفة بأن تحصي الجنيهات الذهبية بينما تكرر أمها لأبيها نصيحتها أن يتعامل مع زبائنه وشركائه بالعملة الورقية لأنها حسب رأيها أثمن و”أقيم” من الذهب.
قالت حفيدة إنها سمعت منها أكثر من مرة قصة عرسها وهي في الوقت نفسه قصة عرس ابنة عمها والعريسان شقيقان. تزينت حارة الوراق بأحلى زينة لأيام ثلاثة، وتبادلت العزف خلالها فرق موسيقية عدة ورقصت زينة عوالم محمد علي حتى الفجر وانهالت الهدايا من كبار التجار ورجال الحكومة. كانت في الرابعة عشرة من عمرها وأنجبت ابنة وهي في الخامسة عشرة. وكانت في الثانية والثلاثين عندما عقدت قران ابنتها الطالبة بالمدرسة السنية على أستاذ الجامعة العائد لتوه من إنجلترا والأصغر منها، أقصد من حماته، بثلاثة أعوام. تذكر الحفيدة التي سمعت القصة من جدتها أنها لم تذق منذ رحيلها طعاما في جودة ما كانت تطبخ. بحنين واضح راحت تضرب المثل بصحن محشي الباذنجان الأبيض المقلي بعد إنضاجه في السمن البلدي وبالبط المحشو بالمكسرات والزبيب وبالأرز “الملدن” ذي الرائحة الفريدة. كانت تطبخ على صوت الموسيقى الصادر من الراديو.
تقول البنات وقد صرن جدات أن المطبخ في أيامها كان مكانا للفرح والزهو والعمل الجماعي. كلهن يذكرن المناسبات التي كن يسهرن عندها ومعها حتى قرب الفجر يشاركن في تحويل الزبد الجاموسي إلى سمن بلدي وتعبئتها في صفائح تمهيدا لتخزينها في صندرة البيت. كانت أجولة الأرز تأتي الجارة من أرياف شمال الدلتا تتقاسمانها وتشرفان على تنقيته من الحصى وتخزينه إلى جانب السمنة والعسل والمربات والمخللات وغيرها من الضرورات.
***
نعم. الفتاة الجميلة في الصورة صارت أمي. عاشت تدعو لي بعد كل صلاة أن يرزقني بالزوجة المطيعة والذرية الصالحة واستجاب الرب. رحلت قبل أن ترى أيا منهم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق