طلال سلمان

صرخة تنبية الى جحيم تدخل دولي

أطلق السيد حسن نصر الله، أمس، صرخة تحذير مما يدبّر للبنان وفيه، مهدداً حاضره ومستقبله، عبر وثيقة تأسيسية لاستكمال بناء »الدولة التي تحمي الجميع« في هذا الوطن الصغير وعلى قاعدة محددة ومعتمدة هي: اتفاق الطائف.
ولقد خاطب الأمين العام ل»حزب الله« إحساس اللبنانيين جميعهم بالخطر وهم يواجهون لحظة فاصلة في تاريخهم الحديث: فالخروج السوري من لبنان يتم في ظل ضغوط دولية هائلة تتصل بالخريطة الأميركية التي تحضّر للمنطقة أكثر مما تتصل بمطلب لبناني مشروع، في جو من الأخوة والتفاهم على المستقبل مع الأخ والجار الذي لن يحول ولن يزول، بعد الاطمئنان إلى اكتمال بناء مؤسسات الدولة على قاعدة صلبة من الوحدة الوطنية.
وهذا الخروج أريد تصويره »إجلاء« واحتفلت به بعض القوى السياسية اللبنانية وكأنه انتصار تاريخي (أو انتقام دافعه ثأر قديم) على »محتل« أخذ البلاد بالغصب والقهر، ثم أُخرج مطارداً باللعنات والشتائم المقذعة (وكأنه يغادرنا إلى القمر!)، في حين أنه يتم في لحظة طغت فيها على السطح خلافات جدية كانت كامنة حول ما يفترض أنه بعض الثوابت الوطنية، أبرزها ما يتمثل في محاولة استبدال الطائف بالقرار الدولي 1559 الذي يكاد يشكل نقيضه… فالأول اتفاق بين اللبنانيين في ظل رعاية عربية، والثاني اتفاق دولي على اللبنانيين (والسوريين) يكاد يلغي أي دور عربي في الشأن اللبناني، حاصراً الصلاحيات بالإدارة الأميركية التي تكاد لا تنام لشدة قلقها على اللبنانيين وسيادتهم والديموقراطية، ومن معها من الحلفاء أبرزهم بطبيعة الحال العدو الإسرائيلي.
ولقد أراد السيد حسن نصر الله أن ينبّه الجميع، وأن يحذر الجميع، وأن يحمّل كل طرف سياسي مسؤوليته… وعلى هذا فهو لم يطرح برنامج »حزب الله« مثلاً، أرضاً للقاء، ولا هو حاول إثارة المواضيع الخلافية، بين القوى السياسية المتعددة الاتجاهات والعقائد، بل دعا تحديداً إلى العودة إلى أفياء اتفاق الطائف، من أجل ترسيخ التوافق على »الدولة التي تحمي الجميع«، مؤكداً وبشكل قاطع أن »ليست الميليشيات هي التي تحمي طوائفها«.
ولقد كان بديهياً أن يوجه السيد حسن نصر الله تحية تقدير وعرفان بالجميل إلى الجيش العربي السوري (وهو يغادرنا عائداً إلى بلاده)، خصوصاً أن هذا الجيش قد قدم من أجل إعادة توحيد لبنان واللبنانيين دماء جنوده بسخاء، كما أسهم وجوده في التمكين لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، (بمعزل عن التجاوزات والمخالفات والتدخلات التي لها حديث آخر، وهي تكوّن نوعاً من الشركة المساهمة بين الفاسدين من السوريين والفاسدين من اللبنانيين)..
لا يحتاج السيد حسن نصر الله إلى الشجاعة ليقول إن »حزب الله«، الذي حقق بدماء مجاهديه نصراً مؤزراً على العدو الإسرائيلي، إنما يستمد حصانته وحمايته من الإجماع الوطني حول مهمته المقدسة.
أما وأن »حزب الله« هو البند الثاني على جدول أعمال التدخل الدولي، والدور الإسرائيلي فيه واضح ومعلن، فإن من حق السيد حسن نصر الله أن يسأل المرحبين بهذا القرار والملحين على تنفيذه (كاملاً وفوراً) إلى مخاطره على لبنان، دولة وشعباً، بوحدته الوطنية ودولته بمؤسساتها.
وهنا كان لا بد أن يتقاطع نداء السيد حسن نصر الله مع الموقف الذي أعلنه الرئيس السوري بشار الأسد محذراً من أن يتحول قرار التدخل الدولي أو أن يؤدي إلى اتفاق 17 أيار جديد، يعيد فتح أبواب جهنم على لبنان واللبنانيين (وعبرهم على جيرانهم من أشقائهم العرب في سوريا بداية، ثم في فلسطين)، لا سيما إذا ما استذكرنا ما يجري للعراق وفيه وما يتهدد وحدة شعبه وكيانه السياسي من مخاطر مصيرية.
إن البند الثاني في القرار الدولي هو المدخل إلى ضرب المقاومة في لبنان، التي ترى نفسها »ضمن استراتيجية الدولة« وليست خارجها، وترى بالتالي في تدعيم الوحدة الوطنية على قاعدة اتفاق الطائف ضمانة وطنية لوجودها وتمكينها من أداء مهمتها حتى الإنجاز بالتحرير الكامل للمحتل من الأرض اللبنانية.
ويعرف قادة المعارضات المختلفة المؤتلفة هذه الحقيقة، وإن تباينت مواقف بعضهم عن البعض الآخر… فثمة من يتعجل الانتساب إلى العالم الجديد الذي تبنيه الإدارة الأميركية، بمعزل عن الاعتبارات الوطنية أو موجبات الانتماء القومي. وثمة من لم يتعظ بالتجربة المأساوية التي فرض على لبنان أن يعيشها في ظل محاولة قهره باتفاق الإذعان في 17 أيار 1983.
ويعرف الجميع أن مجرد تصنيف »حزب الله« ميليشيا هو اعتداء على الحقيقة، وإهانة لدماء الشهداء، والأخطر أنها تمثل إدانة لكل من ناضل أو يناضل حتى الشهادة من أجل تحرير بلاده من الاحتلال.
وإذا لم يكن مثل هذا التزوير لهوية المقاومة اعتداءً أجنبياً وتدخلاً فظاً في شؤون لبنان، بهدف ضرب مفهوم الوطنية فيه، ومفهوم الاحتلال، فكيف يكون التدخل، وكيف يمكن الحديث عن تحصين الوحدة الوطنية إذا ما سُمح للتدخل الأجنبي أن يضرب بديهيات الوحدة الوطنية، وإذا ما تم الخلط بين الأخ الشقيق (ولو أخطأ في التفاصيل) وبين العدو الذي يريد أن يفرض علينا اتفاق إذعان آخر، تحت غطاء التدخل الدولي القاتل للإرادة الوطنية؟!
وبهذا المعنى تكتسب شهادة السيد حسن نصر الله في الرئيس الشهيد رفيق الحريري أهمية استثنائية، لدوره في الاعتراض على اتفاق الإذعان ذاك ومقاومته للتدخل الأجنبي عموماً، فضلاً من دوره الذي لا يمكن إغفاله في الوصول إلى »تفاهم نيسان« الذي يظل إنجازاً ومصدراً للاعتزاز الوطني والقومي، إذ أن حماية المقاومة بالمظلة الدولية مكّنت من تعزيزها قدراتها ومشروعيتها لإنجاز مهمة التحرير.
وبديهي أن يلح السيد حسن، كما يلح كل مواطن لبناني، وكما طالب الرئيس بشار الأسد وتطالب وتلح أسرة الشهيد رفيق الحريري بوجوب كشف الحقيقة في جريمة الاغتيال باعتبارها أمراً وطنياً جامعاً لا يخص فئة بعينها… وسوريا أول المستفيدين من كشف الحقيقة.
لقد أصاب السيد حسن حين وصف جريمة الاغتيال بأنها لغم كبير جداً ومؤامرة على لبنان وسوريا… وهي مؤامرة تستهدف، مع الشهيد، الوحدة الوطنية والعلاقات بين لبنان وسوريا، بل هي تستهدف هوية هذا الوطن الصغير ودوره القومي العظيم.
لقد تحدث السيد حسن نصر الله، الشهيد المرجأة شهادته، إلى اللبنانيين بمنطق الحريص على وحدتهم والاجتماع على خيرهم في حاضرهم وفي غدهم: رفض منطق العزل والتخوين وتوزيع الشهادات بالوطنية حسب الغرض أو المزاج، ودعا إلى تعزيز الدولة وتوطيد أركانها (من دون أن يطلب حصة في حكمها!).. كما نبّه إلى مخاطر الانزلاق مع مشاريع التدخل الدولي إلى مهاوي الكارثة، منبهاً إلى أن من يرى في هذا التدخل انتصاراً لبنانياً على سوريا، أو انكساراً سورياً سيعود علينا بالخير، إنما هو واهم إلى حد الانتحار.
إنها صرخة تنبيه تتجاوز حسابات الربح والخسارة في المنافسة بين الموالاة والمعارضة، وكلاهما أعجز من أن يواجه المخاطر منفرداً.
وهو نداء من أجل الوحدة الوطنية التي من دونها لا يمكن أن نبني دولة أو أن نحفظ مستقبل هذا الشعب الذي طالما جاءته المخاطر مع مشاريع التدخل الدولي فيه.
وفي انتظار أن نسمع جواباً صريحاً ودقيقاً ومحدداً من المعارضات المؤتلفة المختلفة، يمكن أن يضع الجميع على الطاولة لإعادة تثبيت التوافق على اتفاق الطائف، سيظل اللبنانيون أسرى هواجسهم وخوفهم على الغد يفزعهم أن يصفق أحدهم الباب بشدة أو تقفز قطة من النافذة وهم غافلون.

Exit mobile version