يعرف اللبنانيون، سياسيين واقتصاديين، مثقفين وأنصاف متعلمين، عقائديين وحزبيين أو من العوام ، من الكبار في السن أو الكهول أو من الشبان المتحمسين، انهم محكومون بالوفاق لأن بديله الافتراق عبر حرب أو حروب أهلية سمعوا عنها كثيراً وقرأوا أكثر، وان طوى كل صدره على الكثير مما يحفظه خوفاً من ان تتكرر المأساة فتلتهم جيلاً أو أجيالاً جديدة.
وفي كثير من البلدات والقرى اللبنانية ما زال الشيوخ والعجائز يروون لاحفادهم فصولاً من التاريخ الدموي للصراعات الدولية في المنطقة ومن حولها، التي كثيراً ما كان لبنان ساحتها، ودائماً كانت المنازعات السياسية المغلفة بحقوق الطوائف هي الذريعة والمدخل لحروب أهلية التهمت رجالهم ونساءهم وأطفالهم وأحرقت مدناً وبدلت مواطنهم فنقلت سكاناً من جهة إلى أخرى، بحسب شروط الحمايات… الخارجية لطوائف الداخل!
الوفاق أو الصيغة ؛ الميثاق الوطني أو اتفاق الطائف ، هي كلها ابتكارات أسهمت في ابتداعها الدول ، عربية وأجنبية، مع قيادات الطوائف، لصياغة نظام حكم يحقق التوازن بين هؤلاء اللبنانيين الذين تارة يعترضون على النظام، وطوراً يعترضون على الكيان، ودائماً يعترضون على السلطة، وقد يصل بهم الاعتراض إلى التصادم والغرق في دمائهم، ثم يكتشفون ان التغيير الذي يطمح إليه كل طرف من أطرافهم مستحيل، فيعودون إلى التسليم بالكيان وبالنظام بعد تعديلات طفيفة يمكن اعتبارها جوائز ترضية… لكن الرغبة بالثورة تظل كامنة في الصدور تنتظر جيلاً آخر ليناطح بها المستحيل!
كل أبطال لبنان تسوويون، سواء في ماضي هذا الكيان الذي تمدد أحياناً وتقلص أحياناً بحسب صراعات الدول ومصالحها، أو في حاضره، قبل استقلال الدولة وبعد دولة الاستقلال .
حتى أبطال الاستقلال كانوا تسوويين: ألم يكونوا هم هم قادة ومسؤولين و حكاماً في ظل الانتداب الفرنسي؟! ألا نسمع الحكايات (الموثقة) عن الانقلابات التي تمت في اللحظات الأخيرة فنقلت الرئاسة من طامح إلى طامح آخر بسبب تحول في مواقف الدول ، لا سيما الأقوى والأعظم نفوذاً منها؟
لم يصل لبناني إلى سدة الرئاسة إلا بتسوية تراعي شروط التوافق فتحفظ حصص الطوائف التي صارت حقوقاً كرسها العُرف الأقوى من الدستور.
ولم تقم حكومة إلا بتسوية، فإذا كابر طرف ضربته موجبات الوفاق، من الخارج أو من الداخل، حتى يثوب إلى رشده ويقنع بحصته المقررة… وإلا شُطب من المعادلة . وتحفظ ذاكرة اللبنانيين أسماء العديد من شهداء الخطأ في قراءة التحولات.
أما النظام نفسه أو الصيغة فقد جرى تعديلهما تحت ضغط التحولات السياسية من حول الكيان واحتياجه إلى ضمانات جديدة من القوى المؤثرة الجديدة التي جاءت بها الثورات والانقلابات التي ولدتها الهزيمة أمام المشروع الإسرائيلي في فلسطين، أو بقوة الدفع التي تمتعت بها قوى كانت تحتل مواقع ثانوية ففاضت عنها وكان لا بد من تعديل في الصيغة حتى لا يسقط مع النظام الكيان.
هل نحن، مرة أخرى، أمام إعادة صياغة للصيغة حماية للنظام، وبالتالي للكيان؟!
ان تعظيم الخلاف السياسي، مثله مثل التعامي عن حجم الأزمة الفعلية التي يكاد يختنق فيها النظام، ويتهدد معها الخطر هذا الكيان الخالد!
من يريد حرباً أهلية في لبنان؟ ومن له مصلحة فيها؟
في المبدأ: لا أحد.
لكن المكابرة، وافتراض كل طرف انه قادر على إلغاء الآخرين أو حتى على تحجيمهم لإدخالهم قسراً في نظام يهيمن عليه،
سيتسببان في خلق حالة من التوتر في لحظة تحتدم فيها الصراعات الدولية في المنطقة، بما يكاد يلغي أدوار أهلها… وهذا العراق شاهد وشهيد، فضلاً عن فلسطين التي يراد لشعبها ان يقنع بسلطة رمزية (تحت الاحتلال) على أرض محتلة وممزقة وحدتها بما يجعل التواصل بين أهلها متعذراً.. ويبقى قرارها خارج ارادته، وخارج يد سلطته الهشة بالتأكيد.
أما إسرائيل التي حاولت التخفيف من وطأة هزيمتها العسكرية في مواجهة المقاومة في لبنان، فإن قيادتها قد التفتت إلى الداخل تعزز وحدته قبل ان تذهب إلى شريكها الأكبر، الأميركي، ليوفر لها التعويض عن خسائر الحرب التي خاضتها بالنيابة أو بالشراكة أو بالتواطؤ، لا فرق…
والخوف ان تتسبب صراعاتنا العبثية في ان نتكبد بعض هذا التعويض ، فيهزمنا الداخل ، بعد ان عجز الخارج عن إلحاق الهزيمة بنا، كياناً ونظاماً وصيغة حكم!