وعيت الدنيا على مشهد يرافقني منذ عشرات السنين، فلا تسقطه الأيام، بحلوها ومرها وتبقيه حياً في ذاكرتي خصوصا وان تداعياته لا تفتأ تتعاظم في دنيانا مشكلة الحقائق المرة في حياتنا والإرث الثقيل الذي نتركه لأجيالنا القادمة:
كان والدي عريفاً في الدرك “يخدم” في مخفر بلدة رشميا، قضاء عاليه، والتي يزهو اهلها بأنها مسقط رأس اول رئيس لجمهورية لبنان المستقل، بعد جلاء قوات الانتداب الفرنسي عنه فــي 31 /12/ 1946 كما تشهد تلك الصخرة المنقوشة عليها الذكرى المجيدة: الشيخ بشاره الخوري.
كنت غراً، بعد، والوقت شتاء، لكن المطر لم يمنع نساء تلك القرية “المسيحية” من التجمهر في الساحة لاستقبال حافلة عتيقة ممتلئة حتى آخرها بسرب من النساء والاطفال، وسط شعور ثقيل بالحزن بلغ ذروته مع والدتي التي اجهشت بالبكاء، بينما انا وبعض الاولاد ندور من حول الحافلة واجفين نتابع المشهد المحزن منتظرين أن نفهم ما توحي به تفجر عاطفة ذلك الجمهور من احزان.
بعد حين فهمنا اسرار هذا المشهد الذي استدر بكاء الامهات:
فالبوسطة العتيقة او الحافلة، جاءت بقافلة من اللاجئين الفلسطينيين غالبتهم من النساء والاطفال ومعهم بعض الرجال.. وان بواسط أخرى انطلقت إلى مناطق أخرى من هؤلاء اللاجئين.
ويمضي بعض الوقت قبل أن نعرف انه قد جرى فرز اللاجئين الفلسطينيين على اساس انتمائهم الديني، فأرسل المسيحيون منهم إلى مناطق “مسيحية” (او مخيمات، كما ستغدو في ما بعد، ومنها ضبية، جسر الباشا، مار الياس بطينا في بيروت). بينما ارسل المسلمون منهم إلى مناطق اسلامية: صبرا وشاتيلا في بيروت، مخيم تل الزعتر، فوق سن الفيل، بعلبك، نهر البارد في الشمال، عين الحلوة في صيدا، فضلاً عن مخيمات اضافية في صور الخ..
ولسوف تدور الايام، فاذا بالنظام الطوائفي ـ ومن خلفه ـ يوفر تسهيلات خاصة للمسيحيين من اللاجئين الفلسطينيين، والانظمة العربية المشاركة في النكبة والتي كانت بعد تحت الاحتلال او الانتداب البريطاني لا سيما في الخليج بعنوان الكويت تستقبل اصحاب الخبرات والشهادات العليا (اساتذة تعليم ثانوي، مهندسون، قانونيون، اداريون فضلاً عن المهنيين الاكفاء) للمشاركة في اعمار تلك “الدول” التي استنبتها الاستعمار البريطاني في الخليج بعنوان الكويت.
ملاحظة للتاريخ: مع تكامل فوة “جيش الدفاع الاسرائيلي” بعدما دمجت فيه العصابات المسلحة التي كانت تقاتل الفلسطينيين داخل وطنهم لإجلائهم عن مدنهم وقراهم في محاولة لصد هذا الغزو المسلح (شتيرن وهاغانا)..
.. وفي ظل الواقع المؤلم المتمثل بضعف الجيوش العربية قيد التأسيس، ودولها بالكاد قد استقلت (لبنان وسوريا التي كان البريطانيون قد اقتطعوا منها الضفة الشرقية لنهر الاردن لينشئوا ما عرف بإمارة عبدالله ابن الشريف حسين، كتمهيد لإقامة اسرائيل وتهيئة لمكان آمن لأهالي فلسطين الذين سيشردهم الغزو اليهودي..)
..وفي ظل عزلة مصر الملكية خلف صحراء سيناء، وضعف جيشها، الذي ارسل بعض قواته الضعيفة وقد زودها “سماسرة الحروب” ببنادق عتيقة وغير صالحة، كانت قذائفها تنطلق من الخلف، لذلك كان المقاتل يبعدها عن وجهه حتى لا تقتله، ويودع رصاصاتها بقوله: (يا ربي تيجي بعينو!.)
اما العراق تحت حكم فيصل الثاني وولي العهد عبد الاله ومعه رئيس الحكومة نوري باشا السعيد، فقد اكتفى بمشاركة رمزية تمثلت بنحو مائتي جندي متطوع.
على الضفة الأخرى كانت اساطيل من السفن تأتي إلى فلسطين حاملة آلاف الجنود (من اليهود) الذين خاضوا بعض المعارك في الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيوش الحليفة (البريطاني والفرنسي ثم الاميركي)..
هذا فضلاً عن السفن التي جاءت محملة بالمصفحات والمدفعية الثقيلة والذخائر الكافية لتحرير “فلسطين” من اهلها، وتسليمها خالصة مخلصة لعصابات شتيرن وهاغانا التي سيوحدها بن غورويون في “جيش الدفاع الاسرائيلي”..
أما فوزي القاوقجي ومعه المئات من المتطوعين فقد ذهبوا إلى فلسطين بحماسة ينقصها السلاح والذخيرة، فتحاول تعويضه بالهتاف:
“يا فلسطين جينالك… جينا وجينا جينالك.. جينا لنشيل احمالك”!
المفارقة المحزنة أن عودة فوزي القاوقجي من فلسطين، بعد ضياعها، تسببت بفتنة عند ابواب طرابلس ذهب ضحيتها المئات بين قتلى وجرحى.
هل يمكن اعتبار هذه الوقائع وغيرها كثير من الممهدات لـ”صفقة القرن”؟!