ربما لأن اللبنانيين يعيشون في هذه الأيام، مجتمعين لا متفرقين، وموحدين لا متناحرين، لحظة فرح مشتهاة ومرتجاة منذ زمن بعيد، بعيد.
وربما لأن اللبنانيين الخارجين من حروبهم مثخنين بالجراح، يعيشون منذ بعض الوقت حالة من الاسترخاء والاطمئنان الى أنهم باتوا أخيرا آمنين في بيوتهم وفي حياتهم اليومية.
وربما لأن صيدا غالية على قلوب اللبنانيين، بذاتها أولاً، بتاريخها النضالي العريق والمتصل بغير انقطاع، وبالتضحيات التي قدمتها على مذبح الشهادة والصمود، مفتدية بالعزيز من قياداتها وأبنائها الوطن وعروبة فلسطين، والتي لم تسقط من يدها أبداً راية المطالب الشعبية في الحرية والعدالة والتقدم.
وربما لأن صيدا تحرس بنور عينيها المحراب المقاوم في الجنوب.
وربما لأن صيدا مستهدفة من قبل ومن بعد، ربما أكثر من أي مدينة أخرى في لبنان لافتراض العدو أنه قد يستطيع من خلال العبث بأمنها أن يستدرج مجموعة من ردود الفعل لا ينظمها ناظم، وأن يولد حالة من الشك والريبة في ما بين أبنائها ومحيطها وجوارها.
ربما لأن صيدا شديدة الحساسية، إذ علّمتها التجارب مع الاحتلال الإسرائيلي، قبل الاجتياح وبعده، أنه غالبا ما يضرب فيها، إذا ما أراد استكشاف متانة الأوضاع السياسية ومدى صلابة الوحدة الوطنية، وإمكانات إحداث شرخ في العلاقات اللبنانية الفلسطينية على المستوى الشعبي.
ربما لهذا كله فإن بضع رصاصات قاتلة في صيدا، وأصداء انفجار قنبلة في سيارة، كانت كافية لأن تدوي في سماء البلاد كلها، ولأن تنشر القلق في أوساط الناس جميعا، وحيثما كانوا من لبنان.
إن إطلاق الرصاص أو تفجير العبوات يتعدى في لبنان »الحادث الأمني«، انه يقرأ فورا بالسياسة، وتنطلق التحليلات والتخمينات والتقديرات تحاول فهم »الخلفية السياسية للحادث الأمني« أو الغرض السياسي المستهدف من خلال دوي الرصاص.
ثم انه من الطبيعي، وقد استهدف الرصاص رجلي أمن لا عداوة لهما ولا خصومة مع أي من سكان صيدا أو العابرين منها وإليها، بل يجمع الناس على الإشادة بدماثة الفقيدين وطيبتهما، أن تبرز على الفور أسئلة من طبيعة سياسية: من المستفيد؟! ولماذا؟! ما الهدف من هذا القتل العمد، بل الاغتيال الذي لا تبرره خصومة أو عداوة شخصية أو خلاف سياسي مع هذين العاملين في خدمة الصيداويين وأمنهم؟!
إنه رصاص على جملة من الأهداف، دفعة واحدة.
هو رصاص على هيبة الحكم، في لحظة دقيقة جدا، أي عشية تسلم العماد قائد الجيش إميل لحود مهام رئاسة الجمهورية.
وهو رصاص على الأخوة اللبنانية الفلسطينية مجسدة في صيدا، رصاص من خارجها وعلى طرفيها معا، وعلى حالة التعايش بل التمازج إلى حد التوحد تقريبا.
وهو رصاص على المقاومة الباسلة، من خلال إثارة الشكوك حول أطراف سياسية بعضها من يحمل الشعار الإسلامي.
وهو رصاص على أمن لبنان كله، إذ ان حالة القلق سرعان ما امتدت من صيدا لتشمل اللبنانيين حيثما كانوا.
ولربما استذكر من دبر وخطط ونفذ ان الناس ستقرأ أخبار »الحوادث الأمنية« وفي ذهنها ان رئيس الحكومة رفيق الحريري هو ابن صيدا.
على أن الجميع، في الداخل والخارج، لم ولن يستطيعوا تجنب الربط بين هذه »الحوادث الأمنية« وبين اتفاق »الشراكة« الجديد الذي وقعته السلطة الفلسطينية مع حكومة التطرف الإسرائيلي في واشنطن يوم الجمعة الماضي، وهو الاتفاق الذي يحاول تفسير اتفاق سابق في القاهرة كان عقد لتفسير أسبق في الخليل كان عقد لتفسير اتفاق أسبق على الأسبق كان قد تم توقيعه في أوسلو… ولم ينفذ الأول، و»المقدمات« تشير الى ان الأخير أيضا غير قابل للتنفيذ!
… حتى لو كان في مثل هذا الربط شيء من التعسف، وشيء من القفز عن الوقائع الى الاستنتاج المنطقي، وانطلاقا من محاولة تحديد المستفيد، ومن ثم العودة الى التفاصيل وحبكها بما يؤكد انها تحقق له ما يريده أو ما يريحه..
لكن اللبنانيين يتذكرون ولن ينسوا كيف استقبلت إسرائيل اختيارهم إميل لحود للرئاسة: فالتصريح الأول الذي جاء من تل أبيب لمصدر رفيع في وزارة الدفاع الإسرائيلية، كان يأخذ على لحود انه »لا يملك من النفوذ ما يمكنه من إبرام أية اتفاقات معها، وليس باستطاعته إظهار أي تعاطف معها«.
أما التصريح الثاني، الأوضح الى حد الاستفزاز، فكان يحمل توقيع رئيس أركان جيش العدو شاوول موفاز الذي قال »ان الجيش اللبناني لم يكن يوما من الأيام يشكل قلقا وإزعاجا لإسرائيل إلا بعدما تسلم الجنرال لحود قيادته«.
المهم ان هذه »الحوادث الأمنية« قد وضعت هيبة الحكم أمام امتحان جدي.
ونتمنى أن يكون صحيحا ما أعلنته بعض أوساط الحكم من أن التحقيق الذي سينتهي خلال يومين سيكشف خلفيات هذه الحوادث بأبطالها و»مرجعياتهم« وأهدافهم جميعا.
إن سلامة لبنان واللبنانيين معلقة بسلامة صيدا بكل أهلها.
.. وليس مستغربا ان يبدأ امتحان العهد الجديد في هذه المدينة الباسلة التي تحرس بعينيها المحراب المقاوم في الجنوب..