يعيش الوطن العربي محنة، مأساة قومية، بلبلة فكرية وحالة تيه سياسي تسقط معها القضايا المقدسة من مواقعها كأولويات لتحتل الاهتمام مسائل ثانوية تأخذ إلى الاشتباك على ضفاف الحرب الأهلية، وتكون الضحية العظمى: فلسطين.
تتواطأ القوى السياسية والحزبية التي كانت في موقع الريادة الفكرية متقدمة الصفوف في الحركة الشعبية، على تاريخها وعلى المستقبل، أي على الأجيال الجديدة، وتخذلها في اجتهادها من اجل معرفة الصح وإكمال المسيرة، وتضعف همتها وإصرارها على أن تعرف الحقائق التي طمستها عهود الحاكم ـ الفرد، الواحد الأحد… وتختفي القضية المقدسة، فلسطين، بالتجاهل، أو بالتخوف من العجز عن المواجهة، مواجهة الذات ومواجهة الأنظمة العربية المعنية التي تتوحد هنا وتتخذ موقفاً حاداً يكاد يدمغ الكل بتهمة الخيانة.
ولقد رافق الاتهام بالخيانة قضية فلسطين، منذ أن احتلت صدارة الاهتمام، كرد فعل على الأنشطة الصهيونية ممثلة بشراء الأراضي، بالتواطؤ أو بتسهيلات خاصة من سلطات الانتداب البريطاني… فباع أثرياء لبنانيون وسوريون بعض ما يملكون من الأراضي، متذرعين بأن أصدقاءهم أو أقرانهم من الفلسطينيين يبيعون.. لكن ذلك لن يؤثر على جوهر القضية، فما اشتراه أو سيشتريه اليهود لن يتجاوز نسبة العشرة في المئة من مجموع مساحة فلسطين.
كان المنطق السائد يعتمد تصغير الخطر الإسرائيلي، مستشهداً بالحكايات والأساطير التي تهزأ من “اليهود” وبخلهم وطمعهم، وتصدرهم مجاميع من الجبناء لا يواجهون فإذا ما فرضت عليهم المواجهة فروا أو استسلموا أو باعوا مواقعهم بالثمن.
كان عرب السلطة آنذاك يتوزعون بين جهلة لا يعرفون ما يدبَّر لهذه الأرض وبين متآمرين ضالعين في عملية “بيع فلسطين” بالتقسيط، وبين قلة تعميها حماستها عن الدراسة والتدقيق لمعرفة حقيقة ما يدبر للمنطقة العربية برمتها، عبر فلسطين وانطلاقاً منها.
وهكذا عندما جاءت ساعة الحقيقة انتبه المسؤولون العرب إلى أن إسرائيل ستفد بقواتها المسلحة وقدراتها المهولة قياساً إلى القدرات العربية، من الخارج وأن يهود الداخل الذين وجدوا من ينظمهم في ميليشيات مسلحة قد باتوا أقوى سلاحاً وأعظم أعداداً من عرب فلسطين ومعهم كتائب الحماسة العربية التي دخلت فلسطين على وقع نشيد “يا فلسطين جينالك”، والتي كان يحكم مسلكها ترسبات الأقاويل بل الأساطير عن جبن اليهود وبخلهم الخ.
لذلك صُعق العرب بفارق القوة مع العدو الوافد، إلا القليل من حكامهم المتواطئين والذين كانوا يعرفون الكثير عن طوابير الجنود المدربين لدى البريطانيين والأميركيين خلال الحرب العالمية الثانية، والذين زودوا بأسلحة فعالة بينها الدبابات والمصفحات وحتى الطائرات الحربية، في حين لم يكن مجموع الجيوش في الأقطار العربية المحيطة بفلسطين تملك مثلها في قوة النيران او ما يواجهها في صد الهجمات ومنع “الجيش الوافد” من احتلال الأراضي الفلسطينية بسهولة، وإن حفلت المواجهات بأعمال بطولية، لكنها كانت في معظم الحالات فردية.
ومن أسف فإن فارق القوة هذا قد تعاظم خطورة بعد أربعة حروب خاضها العرب، مصر وسوريا أساساً ومعهما بعض القطع والتجهيزات العسكرية كالطيران والصواريخ، التي وفرتها بلدان أخرى بعيدة عن الميدان (العراق، الجزائر، ليبيا، المغرب، السعودية ـ سلاح النفط وبعض أقطار الخليج..).
بعد حرب رمضان – تشرين 1973 التي بدأت منتصرة ثم ضيع أنور السادات النصر وترك سوريا تقاتل وحدها مندفعاً إلى التفاوض المنفرد مع العدو الإسرائيلي، وإن هو حاول الإيحاء أن منظمة التحرير ستكون “شريكاً”، لكن ذلك كان مستحيلاً وفق حسابات الإسرائيلي… ثم إن الوفد الفلسطيني لم يجد له مقعداً شرعياً فيها.
ولسوف تبدأ رحلة التفاوض، لكل طرف عربي على حدة، حتى أمكن توفير الفرصة للأردن كي قد يوقع اتفاقاً (كان منجزاً من قبل) في وادي عربة، بينما استمر التفاوض مع سوريا عبثياً، إذ إنها تمسكت بشروط الانسحاب الكامل حتى حدود الرابع من حزيران 1967.. وهكذا انتهى آخر لقاء بين الرئيس الاميركي بيل كلينتون والرئيس الراحل حافظ الأسد بعد دقيقتين تماماً… إذ أصر الأسد على استعادة الأراضي السورية “إلى حيث كنت أسبح في مياه بحيرة طبريا”.
أما لبنان فكان واضحاً منذ اللحظة الأولى أن العدو الإسرائيلي لا ينوي الانسحاب، بالفعل، وهكذا انعقدت جلسات مطولة لمفاوضات محكومة بالفشل، سرعان ما توقفت في قلب الفراغ، تاركة إنجاز التحرير للمقاومة.. وقد أنجزته بدماء شهدائها وتضحيات أبناء البلدات المحاذية للحدود اللبنانية ـ الفلسطينية في الخامس والعشرين من أيار من العام 2000.
بعد ستة أعوام وشهرين ستشن إسرائيل حربها الثالثة او الرابعة او الخامسة على لبنان.. لكنها هذه المرة كانت شاملة، استهدفت المدن والقرى في الجنوب وبعض البقاع وبعض الشمال وبعض الجبل وإن تركزت غارات طيرانها بالصواريخ الحارقة على الضاحية، جنوبي بيروت، حيث مقر قيادات المقاومة وغرف عملياتها.
ولقد استمرت هذه الحرب التي لم توفر فيها إسرائيل سلاحاً من مخزونها الإستراتيجي شهراً كاملاً من التدمير الشامل الذي حوَّل الضاحية إلى ركام… لكن الناس صمدوا، خصوصاً أنهم كانوا يتابعون رد المقاومة الذي شمل أعماق الكيان الصهيوني وليس المستوطنات على الحدود فحسب. كذلك فقد استخدمت المقاومة سلاح الصواريخ الموجهة ضد المدمرات والسفن الحربية، لأول مرة وأصابت واحدة منها رآها المواطنون والنار تلتهمها أمام شواطئ خلده – قرب بيروت.
توقفت الحرب إنفاذاً لقرار دولي استبقته مناورات ومؤامرات لعبت فيها بعض الأطراف اللبنانية أدواراً غير محمودة.
*****
ها نحن نعيش في الظلال السوداء لذرى الهزيمة العربية في الخامس من حزيران 1967، والتي أعقبتها عودة سريعة إلى الميدان عبر حرب استنزاف كان مقدراً أن تمهد للعودة إلى الحرب، بقرار عربي هذه المرة، لكن المقادير غيبت جمال عبد الناصر في اللحظة الحاسمة وانقلب المشهد رأساً على عقب ودخلت مصر بعده في متاهة جديدة استخدمت الحرب كمدخل إلى صلح أشرف منه الهزيمة، وكان علينا أن نعيش وقائع “الزيارة” والصلح المنفرد وخروج مصر من الميدان.
على أن شعب فلسطين ظل يحاول إثبات حضوره وقدراته عبر المقاومة، وإن غلبت ـ بعد خروج مصر من الميدان – الأنشطة السياسية على العمل الميداني العسكري بعدما أقفلت الأنظمة حدودها بقوات الطوارئ الدولية لتعزز قدرات قوات الاحتلال الإسرائيلي.
تركزت الجهود على العمل الديبلوماسي… وحاولت القيادة الفلسطينية أن تعقد “صفقة سياسية” مع أقطاب دول عدم الانحياز، الصين والهند وبعض دول اميركا اللاتينية، مفادها أن تعيد هذه الدول علاقاتها الديبلوماسية والاقتصادية وحتى العسكرية مع العدو الإسرائيلي والتي كانت قطعتها تضامناً مع شعب فلسطين خاصة ومع العرب عموماً كضحايا للعدوان الإسرائيلي مقابل أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي (ووحيد) لشعب فلسطين.
.. ثم كان أن عادت منظمة التحرير، بمن تبقى من مقاتليها إلى “داخل البلاد”، بعد مفاوضات شاقة مع العدو الإسرائيلي، الذي رفض أن تستقر “القيادة الفلسطينية” في القدس، فاختارت رام الله عاصمة مؤقتة مركزاً للسلطة الوطنية في ظل توالي الاعتراف الدولي بها وكأنها حكومة مؤقتة، تواصل مفاوضاتها لإجلاء الاحتلال وإعلان الدولة.
*****
أين فلسطين من الاهتمام العربي الآن؟
أين “القضية المقدسة” على جدول اعمال القمم العربية، ثم في أنشطة الديبلوماسية العربية، قبل الحديث عن انجاز التحرير؟! لقد تم الفصل بين مشروع “الدولة” على بعض البعض من أراضي فلسطين وبين “التحرير” الذي عاد إلى خانة الأماني بل أحلام اليقظة؟!
لقد تم التسليم بالكيان الصهيوني كأمر واقع، يفرضه العجز العربي مجسداً في الانقسام الفلسطيني الذي كاد يقسم ما “تنازلت” عنه إسرائيل من أراض محتلة إلى “دولتين” أولاهما في الضفة الغربية وعاصمتها رام الله، والثانية في غزة التي قررت حماس في ظل صراعها مع فتح تحويلها إلى “دولة”.
ولقد وصل الانقسام بين السلطتين في الرقعتين اللتين ما زالتا تحت الاحتلال الإسرائيلي في كل من الضفة الغربية والقطاع، إلى حد أن إسرائيل استطاعت أن تشن أربعة حروب على “حماس” في غزة من دون أن تتحرك السلطة في رام الله… بل إنها غالباً ما أدارت وجهها إلى الناحية الأخرى، وأكملت أنشطتها الديبلوماسية العبثية وكأن الحرب لا تعنيها. بالمقابل تصرفت حماس وكأن قطاع غزة “دولة” مستقلة لها علمها ونشيدها وجيشها، ولا يربطها أي رابط بالضفة الغربية!
تعمق الانقسام، وضرب الضعف “السلطتين” المتخاصمتين.. وابتعدت حماس أكثر فأكثر مع نجاح الإخوان المسلمين في الاستيلاء على السلطة في مصر في لحظة تخلٍ، تطلَّب الخروج منها أن ينزل الشعب المصري بملايينه إلى الشارع (معززاً بالجيش) لإسقاطها… وكان أن تولى السلطة في القاهرة المشير عبد الفتاح السيسي منهياً حكم الإخوان. وقد دفعت حماس ضريبة هذا التحول، إذ تبدت وكأنها طرف في الصراع السياسي داخل مصر. وحاولت الاستدراك، لكن الحصار المصري فُرض على غزة من جديد… ثم إن حملة مكافحة الإرهاب الذي كانت جماعاته متمركزة في سيناء، مفيدة من مئات الأنفاق مع قطاع غزة، تطلبت نسف معظم هذه الأنفاق ومعها العلاقات مع حماس.
في الأيام الأخيرة صدرت بعض المؤشرات التي توحي بانفتاح باب الكلام بين الحكم الجديد في القاهرة وحماس في غزة، مما قد يمهد لجولة جديدة من جولات إعادة توحيد الصف الفلسطيني، ولكن بعد خراب البصرة.. ومعها الموصل والرمادي والفلوجة وبغداد، ومعها أيضاً حلب وتدمر وإدلب والرقة والقامشلي وبعض ضواحي دمشق، قبل الحديث عن القلمون وعرسال اللبنانية.
المفجع أن قضية فلسطين باتت واحدة من قضايا المصير العربي المهدد بالضياع… لم تعد هي الوحيدة، ولم تعد الأولى، بل واحدة من القضايا بل المآسي التي يعيشها العرب في ظل عجزهم عن التوحد حتى والأخطار تتهدد بلادهم، وليس أنظمتهم فحسب، بالتمزق والاندثار.
إن حجم المهجرين في ظل الحرب في سوريا وعليها يشكلون، سواء في الداخل بعد هربهم من مدنهم وقراهم إلى حيث يفترضون أنها مناطق آمنة، أو في الخارج، العربي منه والخارجي، أكثر من ضعفي عدد سكان فلسطين.
كذلك فحجم مهجري العراق، في الداخل والخارج، يكاد يناهز عدد سكان فلسطين..
لقد صار عندنا أكثر من فلسطين… وتعاظمت علينا المآسي والانهيارات حتى أضعنا الطريق إلى غدنا.
مع ذلك فإن شعب فلسطين لا يتوقف عن رفع صوته بمطالبه… وحركة شبابه مستمرة، لا تهدأ..
والكفاح دوَّار.. ولا بدَّ لليل أن ينجلي.