من حق البطريرك الماروني أن يزداد غبطة: لقد نصَّبته »الجمهورية الثانية« في الموقع الذي كان قد تلاشى واندثر حتى من قبل اندثار »الجمهورية الأولى«.
هو الآن المحاوِر، بالفتح أو بالكسر لا فرق، وعن المستقبل وليس عن الحاضر أو عن الماضي.
لا أحد هناك، إذù فليكن هو كل الغائبين أو المغيَّبين أو المغيِّبين أنفسهم منعù للإحراج،
ولأن »الدولة« لا تمثل كل الحاضرين فبإمكان أي كان أن يدعي تمثيل أولئك الذين ليسوا فيها، أوَليست فيهم ومنهم.
.. الدولة؟!
بين »ذاهب« قد يرى البعض في استمراره حلاً مانعù لوصول غير المرغوب فيه، وبين آتٍ قد يرى آخرون في مجيئه خلاصù من غير المرغوب في بقائه،
وبين »حكومة ميتة« لا تجد من يتكرّم عليها بدفنها،
وبين مجلس نيابي يفتقد الدور، كمؤسسة، فيعزي نفسه بحضور رئيسه، وتفويضه أدوار المؤسسات جميعù،
الدولة؟!
تلك هي الغائب الأكبر الذي لا يتأكد وجوده إلا بحضور نقيضه!
من هنا بدت زيارة رئيس المجلس النيابي لبكركي أول من أمس وكأنها »الحدث« الذي يفرض نفسه على عناوين الصفحات الأولى، ويتقدم حتى على جريمة التفجير الرهيبة في مركز الكون: أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأميركية.
كان قد تمَّ تحضير كل شيء لكي يبدو المشهد جليلاً، مهيبù ورسميù كما بدا فعلاً مع غروب شمس الأربعاء الواقع فيه التاسع عشر من نيسان 1995: مفاوضات بين »دولتين«، إحداهما شرعية تمامù وإن كانت تنقصها حماسة شعبيتها، والثانية تقيمها، ولو بالوهم، حماسة شعبيتها التي تحاول التماهي مع »شرعية« تاريخية مزعومة لم يعد لها من سند فعلي إلا ما تقدمه لها »الدولة« الأصلية والأصيلة عبر أخطائها أو قصورها.
لم تكن، أو لم تظهر للناس، وكأنها لقاء بروتوكولي أو تشاوري، تلك الزيارة التي قام بها رئيس المجلس النيابي إلى مقر البطريرك الماروني في بكركي.
لم يهمل تفصيل واحد، ولم يترك أي أمر للمصادفات، من لحظة انطلاق الموكب الفخم قاصدù بكركي في »الضفة الأخرى«، وحتى عودته إلى منطقته في »عين التينة«، وسط جو من التكتم الشديد والرصانة المبالَغ فيها، كما في أي مفاوضات معقدة بين طرفين متباعدين إلى حد التجافي بل القطيعة.
ومن حق البطريرك الماروني أن يزداد غبطة بهذا الاعتراف الجديد أو المتجدّد بموقعه الاستثنائي، وحده من دون سائر المرجعيات الطائفية والمذهبية في لبنان.
لقد جاءت إليه »الدولة«، برئاساتها جميعù، ومؤسساتها جميعها، موفرة له الفرصة لكي يظهر استقباله لها وكأنه نقطة تحوّل تاريخي، مستعيدù ولو للحظة أمجاد ذكريات غابرة لسابقيه في ذلك المقر ذي الموقع الجميل، القريب من على بعد، البعيد من على قرب، وسط غابة الصنوبر الظليلة التي تقتعد تلة مطلة على أجمل خليج في الساحل اللبناني: قبل زمن ليس ببعيد كانت الحكومة الجديدة تولد رسميù بزيارته قبل أن تقصد رئيس الجمهورية التي عيّنها!
لكن المعضلة أنه متى بالغت الدولة في استحضار بكركي دفعت الثمن غيابها، فكيف تكون ثمة »دولة« وسط هذا الحضور الكثيف للبطريركية، التي تحتل كل مساحة الفراغ الذي يخلفه غياب الدولة؟!
هل عادت الجمهورية الثانية إلى بيت الطاعة؟!
أم أن البطريركية التي سلّمت مكرهة باتفاق الطائف، ثم تحفّظت على تطبيقه، وجدت الآن فرصة لتعديل الاتفاق بما يوسّع لها استعادة ما كان لها من دور قبله؟!
أم أنه مجرد تلاقٍ بالمصلحة بين الأطراف المتضررين من تعديل الدستور من أجل التمديد أو التجديد؟!
هل هو لقاء على الرئيس الثاني، بحيث يتمّ تعديل الجمهورية الثانية لإعطاء موقع متميّز للبطريرك أو البطريركية كرديف،
في أي حال فالخيار محدّد: إما تعديل الدستور من أجل الرئيس الأول، وإما تعديل الجمهورية من أجل الرئيس الثاني…
والرئيس الثاني مثل البطريرك في الغبطة، ومثل ما قبل الأول في الفخامة،
في انتظار القرار النهائي لمن استبقى جمهورية يمكن أن يكون لها رئيس بغض النظر عن التراتبية في ترقيمه!