قبل سنة تماماً، إنطفأت “السفير”، لكن الحلم الذي استولدها ما زال يملأ ـ دنياي ودنيا كل اولئك الذين اعطوها معنى وجودها وقيمة استمرارها في قلب الاستحالة.
لقد عشنا معها، اسرة متكاملة في التحرير والادارة والاخراج والمونتاج والطباعة، وصولاً إلى المعاناة مع غيلان الاعلان، ومع ابطال الحرب الاهلية الذين استسهلوا الاعتداء على الصحافة، فأقفلوا الطرقات امام النور، وحاولوا أن يحجبوا الرأي ـ كل رأي ـ لانهم يخافون الكلمة، وان يغطوا على الحقائق بأوهامهم، وان يزوروا الوقائع ليطمئنوا إلى سيادة الغلط بعمى التعصب والعداء مع المعرفة والاستمتاع بنعمة الجهل.
لم تكن “السفير” حزباً.. كانت جريدة مفتوحة للآراء جميعاً، بدليل أن كثيراً من خصوم خطها السياسي كتبوا آراءهم بحرية في صدر صفحتها الاولى، وان العديد ممن رأوا فيها جريدتهم قد اشتكوا من انها قد ساوت بينهم وبين “خصومهم” متمسكة بأنها صحيفة الكل وستبقى وفية لشعارها الذي اختارته نهجاً: “صوت الذين لا صوت لهم..”
لقد اجتهدت “السفير” أن تكون صحيفة الناس، تتصدى لحمل مطالبهم، لرفع مظالمهم، لتأكيد حقوقهم في وطنهم وعلى دولتهم… ولهذا فقد صُنفت “معارضة” للسلطة بمختلف مواقعها. لم تكن جريدة احد بالذات، ولذلك نجحت في أن تكون جريدة “الناس” “كل الناس”.. حتى اولئك الذين يعترضون على خطها، فيرونها تارة “فلسطينية” وطوراً “سورية” احياناً “ليبية” مع جنوح مصري، تقدمية في الغالب لكنها “لبنانية” أكثر مما يجب، متقنة مهنية لكنها “متعصبة” للعروبة في حين أن العروبة “خرافة” و”دعوة إلى ماض مضى ولن يعود”.. بل هي في تقدير بعض اصحاب البدع “صناعة اجنبية” اخترعها الانكليز لمحاربة الاتراك، وقاتلها الفرنسيون لأنها اصطدمت بأسطورة عظمتهم، وحاولت اسطنبول السلطنة ثم انقره اتاتورك استئصالها حتى لا تُفسد دين الله الحق، مرة ، ولا تنصر دين الله الحق، مرة أخرى. في مواجهة خروج اتاتورك على الاسلام والمسلمين والتحاقه “بالغرب الكافر”.
*****
لقد ابتعدنا عن الموضوع فلنعد إلى “السفير”.
أخطر ما في “السفير” روحها التي جمعت فيها من لا يجتمعون فلقد ضمت أسرتها قوميين عرب، وشيوعيين، لبنانيين على حافة حزب الكتائب، وقوميين سوريين، بعثيين “عراقيين” وبعثيين “سوريين”… مصريين وسوريين وعراقيين، توانسة ومغاربة وفلسطينيين، بعضهم من “فتح” وبعضهم الآخر من “الشعبية”.
على أن “روح السفير” قد جعلتهم واحداً، تحت شعار “اننا نعمل لإصدار صحيفة جديدة، تتسع للجميع، لا تحجر على رأي احد، ولا تستزلم لأية جهة.. تحاول أن تكون مع “الصح” مع حق هذه الامة في غد أفضل، ضد العسف والظلم والطغيان. هي مع الناس، كل الناس المتروكين لمصيرهم، الذين لا يجدون ـ غالباً ـ من يمثلهم ويحمل قضاياهم ويعبر عن رأيهم وموقفهم ، لان ذلك واجبه وليس لكي يجاملهم او ينافقهم ويزعم حقه بتمثيليهم”.
ومع أن نيران الحرب الاهلية لم تمهل “السفير” زمناً لتقديم ذاتها في صورتها الكاملة، اذ انها تفجرت او فجرت قبل أن تنهي سنتها الأولى (مع اغتيال المناضل الشهيد معروف سعد في صيدا، اواخر شباط 1975)، الا أن تغليب الواجب المهني، الذي اكتسب الآن، مزيداً من البعد الوطني، جعل اسرة “السفير” تجتهد في كشف اسرار الجريمة وهوية المجرم، وتتابع رسالتها في قلب الصعب.
عشنا كأسرة ، كما كل زملائنا الصحافيين، محنة دموية مهلكة امتدت دهراً، مع فواصل من هدنات بائسة، كانت تمهد لجولات عنف افظع شراسة وأقسى في دلالاتها السياسية حيث اختلط الصح بالغلط، والمدسوس بالبريء، والمريب بالمخلص، واقتتل الاخوة الاعداء فينا وبنا وعلى ارضنا، فسهل على العدو الاسرائيلي أن يخترق الصفوف، وسهل على بعض المستميتين في طلب السلطة أن يتعاملوا مع هذا العدو، من دون خوف من حساب او محاسبة، وان يحولوا الحلم المستحيل إلى واقع مر فاذا بالعائد من لدى العدو الاسرائيلي يقفز ذات صباح من ايام لبنان تحت الاحتلال ، وبحراسة حرابه واغراء الدولارات التي سال لها لعاب بعض النواب إلى موقع الرئاسة الأولى..
لكن الاستحالة تأكدت بالدم، بعد ايام قليلة، اذ اغتيل بشير الجميل قبل ان يتسلم موقع رئاسة الجمهورية، لينقل اصحاب القرار، حينذاك، وفيهم العدو الاسرائيلي، الرئاسة كجائزة ترضية إلى شقيقه امين الجميل، لتبدأ المرحلة الابشع من الحرب الاهلية في ظل وجود جيش الاحتلال الاسرائيلي، الذي كان لا بد أن يستولد حركة المقاومة الوطنية التي اسقطت اتفاق 17 ايار، ليؤكد شعب لبنان هويته الوطنية وعداءه الثابت والمؤكد بالدم والدائم للعدو الاسرائيلي.
من هنا أن “السفير” لعبت دور المؤذن بالمقاومة، والمبشر بالنصر المؤزر، ولو بعد حين..
ولقد واكبت “السفير” مؤتمرات الحوار الوطني، سواء في الداخل، وهي التي انتهت بلا نتيجة، او في الخارج، متنقلة بين جنيف ولوزان في سويسرا، لتنتهي في مصيف الطائف في السعودية، بإقرار التفاهم على اتفاق سياسي بين مختلف الاطراف، رعته سوريا والسعودية مباشرة، وواشنطن من خلف الاواب (المفتوحة لها دائماً..)!
وهكذا، بوشرت إعادة صياغة النظام السياسي في لبنان، بتعديلات محدودة اخذت من الصلاحيات المفتوحة لرئيس الجمهورية لتعطي شيئاً منها لرئيس مجلس الوزراء، في حين تم تحصين موقع رئيس المجلس النيابي، لتصير الشراكة الطائفية موضع اشتباكات مفتوحة.
*****
شهدت التسعينات موت السياسة في لبنان، في حين تهاوت انظمة عربية عاتية (صدام حسين في العراق) ، وعودة قوات الاحتلال، اميركية اساسا وبريطانية وفرنسية الخ إلى المشرق العربي، مع متكأ على السعودية واقطار الخليج.
صارت الانتخابات شكلية، بل أن بعض النواب نجح بأصوات دون الخمسين، في حين نجح “مجهولون” لا يعرفهم من “انتخبهم”… وظهرت اعجوبة “الترويكا” أي الشراكة بين الرئاسات الثلاث، برعاية “الحاضنة السورية” مع حصة معترف بها ـ شرعاً ـ للسعودية.
وعلى امتداد التسعينات، التي شهدت نهايتها (25 ايار 2000)، نجاح مجاهدي المقاومة الاسلامية الباسلة تحرير لبنان من رجس الاحتلال الاسرائيلي، ليقدم الدليل المغموس إلى حد القداسة بدماء الشهداء والجرحى من أبطال المقاومة، نساء واطفالاً وشيوخاً ورجالاً وبيوتاً، على أن ارادة الشعب هي التي تصنع الاقدار.
ومع موت السياسة، التي تحكمها التوازنات الدقيقة المرعية الاجراء في الداخل، والمتابعة بعناية من الخارج، أخذت الصحافة تفقد مكانتها الممتاز كمصدر للمعرفة والمعلومات.. هذا قبل الحديث عن التأثير المتعاظم لوسائط التواصل الاجتماعي (الكومبيوتر ومشتقاته المعرفية التي تتوالد من ذاتها..)
ثم مع رحيل آخر قائد سياسي (داهية) في المنطقة العربية، ونعني به الرئيس حافظ الاسد، عاد لبنان إلى حجمه الطبيعي، خصوصاً مع تزايد الضغوط الاجنبية على سوريا بعد الاحتلال الاميركي للعراق، وتدجين منظمة التحرير الفلسطينية في اوسلو تمهيداً للسماح لقيادتها وعسكرها المنهك والموزع على عواصم عدة بالدخول إلى الارض الفلسطينية تحت عيون الاحتلال الاسرائيلي وبإذن منه يحجز على سلاحهم ويحولهم إلى شرطة اضافية للمحتل.
صار الوطن العربي أرضاً مفتوحة: مصر في غيبوبة اخرجتها من موقعها ومن دورها الذي لا غنى عنه ولا بديل منه، والمعاهدات التي باشرها انور السادات وتوجها بالزيارة ـ العار، في اعقاب الحرب المجيدة تشرين ـ رمضان 1973، والتي كان النصر فيها قاب قوسين او ادنى لو حفظ للتحالف شرفه ولدماء الشهداء قداستها..
والعراق تحت الاحتلال الاميركي الذي اعاد إطلاق مناخات الحرب الاهلية بستار طائفي احيانا (شيعي ـ سني) وعنصري احيانا أخرى (عربي ـ كردي) مع ضحية دائمة من الاقليات العرقية والدينية (أزيديون، صابئة، كلدان، أشوريون الخ)
ثم توالت النكبات:
1 ـ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بيروت، 14 شباط 2005، وانشطار اللبنانيين على قاعدة سياسية في ظاهرها طائفية في مضمونها، وان اتخذت شعاراً لها العداء لسوريا واتهامها بالجريمة والمطالبة بخروج جيشها من لبنان، وهو قد دخله كعمود فقري لقوات التدخل العربية التي كانت مهمتها، بالأصل، الفصل بين المعسكرين المتواجهين: المقاومة الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وقوات “الجبهة اللبنانية”، كتائب مع الوطنيين الاحرار وحلفائهما، من الجهة الاخرى.
2 ـ تأجيج المشاعر بل الغرائز الطائفية، وبين المسلمين ـ سنة وشيعة اساسا ـ، تحت شعارات السيادة والاستقلال، وهي كانت بمجموعها، تمهد للخروج من العرب وعليهم… وكانت موجة العداء تركز على المقاومة ممثلة ب “حزب الله” ومن معها.
وفي السابع من ايار 2008 عقد اجتماع الدوحة، بتغطية دولية، وأعيد فيه تثبيت “الصيغة اللبنانية ” مع بعض التعديلات.
وكانت تلك نقطة النهاية في الحياة السياسية اللبنانية.
بعد ذلك ستنتهي ولاية الرئيس ميشال سليمان (وكان كسلفه العماد اميل لحود قائداً للجيش من قبل) من دون أن يتمكن مجلس النواب من انتخاب بديل له الا بعد حوالي سنة ونصف السنة من الفراغ، وهكذا جاء العماد الثالث ميشال عون (الذي حاول التفرد بالسلطة بعد انتهاء ولاية امين الجميل في العام 1988، وكلفت المحاولة اللبنانيين حربين (حرب التحرير، وحرب الالغاء)، وانتهت بإخراج العماد عون من القصر الجمهوري ليلجأ إلى السفارة الفرنسية، قبل “التفاهم” ـ دوليا ـ على تركه يذهب “لاجئا سياسيا إلى فرنسا”، حيث عاد منها في العام 2005 “بطلاً وطنيا”.. سرعان ما عقد “التفاهم” مع “حزب الله”، والذي كان ركيزة عودته، رئيس شرعياً للجمهورية، هذه المرة.
يتبع غداً