لماذا لا نتوقف عن الكتابة؟ أي فراغ هذا الذي يبتلع الحروف والكلمات؟ ما نفع الحقائق عندما تختنق بحروفها؟ كأن ليس لنا ذاكرة أبداً. اننا نكتب ولا نفعل. اننا نقول ولا نسمع أن حروفنا تخرس اصواتها في بلد، في بلاد، في عالم يفضل أن يغسل حثالة ضميره بسرقة الزمن الانساني، باستبداله بالزمن الممتلئ حقداً وكراهية واستعلاء… والأخطر، اللامبالاة التامة.
لماذا لا نتوقف عن الكتابة؟ تعالوا لننصرف إلى المشاهدة والقهر. لبنان على علاقة علنية بكل العيوب والخطايا والاخطاء. بل هو صاحب الشكوى الدائمة من كل شيء. نعم. من كل شيء. اينما وقفت، ترى امامك خرابا وهلاكا وانعداما. شلل تام مضبوط بعجز متعمد. لا شيء يبرر كل الاشياء الحادثة. لبنان يذوب وسط خرائبه. لبنان يتبخر على مرأى من كل الكلمات. مآسيه بلا تعداد، صارت روتيناً يومياً. انهياراته المختلفة تتساقط وسط كلام يمحوه كلام مضاد. بلد يموت كل يوم، ويوقظونه كل يوم، ليموت كل يوم… هذا ليس ندباً، بل هذا هو لبنان الذاهب إلى الهاوية، على مرأى من امتهن السقوط والجريمة والاحتيال والتسلط والسرقة والاختباء خلف طواحين الطوائفيات. والناس، يرون كل ذلك، ولا يشبهون الاب دونكيشوت. يقاتل بسيفه الخشبي، ولسانه الكاذب، صعاليك الفساد والجريمة.
ليس كل هذا الا دليل عجز. عجز عن الوصف الصحيح لحالتنا. فنحن خوف دائم من العنف. والعنف متأهب لكل فعل شنيع. التربية على العنف، مدرسة تتقن فنونها الطوائف. كل طائفة مستقوية بذاتها، تحمل مشروع عنف مدمر… السؤال عن الانتفاضة والحراك سهل جداً. ابحثوا عن الخوف فقط. الخوف من أن تتحول الثورة المشروعة، إلى مقتلة بين وحوش الطوائفيات. السلطة أضعف كيان في لبنان, السلطة لا سلطة لها، تقوى عندما تضعف الطوائفيات… الا ترون أن السلطة زاحلة عن مكانها الطبيعي. لا سلطة تعلوا سلطات الطوائفيات.
لماذا لا نتوقف عن الكتابة؟
معروف جداً، على مدار مئة عام، أن لبنان الكيان، هو أضعف الضعفاء. كل زعيم صغير، اقوى من كل السلطة. كل صاحب مقام، ديني، مالي، مذهبي، طائفي، مصرفي، زعراني، اقوى من قوى الدولة الخائرة. ولا مرة كنا دولة. كنا فراغاً تملأه عصابات مدعومة حتى من المثقفين الاشقياء.
الكل، وأعني الكل حتماً، يعرف أن لبنان يتحلَل. انهار وخلص. السيء جاء من زمن. الاسوأ نحن فيه. الكارثة ماضون اليها. سنخاف من السير على الطرقات، من الاقامة في مناطق مضادة. لكل طائفة اراضيها الملفوفة بالعنف. ومع ذلك، يتحدث اهل السياسة القميئة، وكأن شيئاً لم يكن. لماذا؟ انهم سيرثون لبنان بعد الكارثة، كما انهم يتمسكون اليوم بالأزمة من جميع جوانبها، كي يكون السقوط عاماً، والنجاة في ما بعد خاصاً بهم.
اننا نكتب أنفسنا. وما يكتب يقرأ، وما يقرأ إما يمحى او يصفى. فضيحة الديموقراطية اللبنانية نكتة خبيثة. ولا مرة كان البلد ديموقراطيا. لا تستقيم الديمقراطية مع الطائفية. الطائفية في لبنان اقوى من الله بكثير. والطائفيون اقوى من الرسل أجمعين.
قد نسأل. واللاطائفيون أين هم. انهم هنا، ولكنهم بلا عنف. العنف اختصاص الطوائفيات. استعيدوا ذاكرة الحراك. استعيدوا مواقف احزاب الطوائف. لقد سرقت اللحظة النقية، وحوَلت الساحات إلى مناوشات عنيفة، بين طوائفيات، لبست ثياب الحراك، وتحكمت بقبضات مباركة من الزعماء. اخترقوا وخرقوا.
لماذا لا نتوقف عن الكتابة؟
البلد فارط. الجوع قادم. الفقر زاحف. الهرب مقفل. المعاناة عامة، باستثناء زبانية السلطة. كل ما عندنا مهدد بالعنف والفقر والتخلي. واسوأ ما يتم التغاضي عنه، حرب الفقراء، على مرأى من الاغنياء، تجار الدم والحياة.
هناك حقائق يجب أن تُقال بصوت عالٍ جداً. الشعب حائر بين الاستسلام المريع والتحدي المفزع. الكذب مفضوح. السلطة ومن معها، يكذبون ويختلفون بلهجاتهم فقط. ما ارتكب على مدار 45 عاماً، وليس ثلاثين عاماً، معروف. والمرتكبون معروفون، وجنون مطبق، أن يطلب من هؤلاء، انقاذ ما يمكن انقاذه. كلا. انهم، كما استفادوا من فترة الهدنة، سيستفيدون من فترة الفتنة.. انهم هم هم. لم يتغيروا ولن. التناسي ليس ذكاء، بل جريمة. الكتمان مسموع. كلن يعني كلن. ولكن هذا الشعار لم يقترن بثورة تصير عن “كلنا يعني كلنا”. لسنا مثلهم. انهم عباقرة، ونحن هواة.
هذا النص يفضحنا. هناك من يسخر منه، وهناك من يهرب منه. إلى متى نظل نهرب من الحقيقة؟ الكارثة هي الحقيقة التي يجب ألا تنسى. وكي تتذكروا واقعنا، قفوا قليلاً، كل يوم، في الرابع من آب، على مرفأ بيروت.
لماذا ما زلنا نكتب؟
لأننا نريد أن نقفز خارج صف القتلة. يلزم أن تبقى اللغة عنيفة كي تصر على تعرية الفضيحة. هناك دائماً ما يُروى وما يجب أن يُعرف، وما يجب أن يُدان، وما يجب أن يُعاقب.
نكتب، لأننا نراهن على أن هناك فرصة للتمسك بحقائق يجب أن تقال بصوت عالٍ. اولها: لن نموت ولن ندع الحقائق تموت، وعلينا أن نعترف أن الكلمة ممكن أن تتحول إلى قبضة، والقبضة إلى لكمة، وهلم جراً، بشرط أن يكون المصدر لهذه القبضة، غير ملوث بأي لوثة طائفية او عنصرية أو خارجية.
فيما نحن نكتب ونقرأ، هناك من يسرق ويكذب وينتهك ويعقد الصفقات. فليكن حكمنا قاسياً وعادلاً.
وفي كل الاحوال نفضل أن نبقى وحيدين على أن نكون نسخة عنهم، لأننا بشر حقيقيون. لا نشتهي تقليد أحد، خاصة اولئك الذين استبدلوا نعالهم بجباههم. كل ما عندنا، حقائق يجب أن تقال بصوت عالٍ جداً.
هل سنخسر كل شيء؟
نخسر طبعاً، إلا انسانيتنا، مهما كان الثمن.