طلال سلمان

سنيورة يثار حريري بحكومة ليس فيها »ابطال وقديسون«

لسوف تكون لحظة قاسية الوقع على نفس فؤاد السنيورة، وهو يدخل، غداً، سراي الحكم في بيروت، التي أعاد بعثها من رماد التهديم المتعمد معلمه وقدوته وقائده: رفيق الحريري..
سيدخل متهيباً، وجلاً، لا ملجأ للتخفف من حرجه وهو يُستقبل بتحية »دولة الرئيس« غير إيمانه بقدر الله، وغير شعوره الصادق بأنه إنما هو مكلف بترميم ما تم تخريبه عمداً لإخراج »الحريري الأول« من السراي (ثم من الحياة)، وحتى لا يكون ثمة مجال لحريري ثان..
سيدخل بعزيمة »المكلف برسالة«، وليس بالممتلئ رغبة بالانتقام، فالمهمة هي »استئناف مسيرة الشهيد« الذي كان يرى أن السراي هي مركز الحكم، مع تسليمه بأن القصر الجمهوري هو في موقع الرمز منه.. ومن هنا فإن رفيق الحريري قد تكفل بنفقات الفخامة في تأثيثها (البوابات والسجاد والثريات..).
ولسوف يدخلها وهو خبير بكل ما استهدف مجدّدَ مبناها حتى لا يكون شاغلها الأول، من مؤامرات ومناورات وعمليات حصار وحملات تشهير كاد يدفع هو، فؤاد السنيورة بعضاً من ضريبتها الباهظة فكاد يُسجن كإعلان عن إدانة رفيق الحريري.
وإذا كان سعد الحريري قد نأى بنفسه عن هذه التجربة، قبل أن يعرف الكثير مما يجب أن يعرفه عن تجربة أبيه الشهيد في الحكم كما في المعارضة، ثم عن الجريمة الفظيعة التي حوّلته الى رئيس شهيد، وكادت تحوّل لبنان بشعبه ودولته إلى ضحية دائمة للصراع المفتوح في المنطقة وعليها، فإن ترشيحه فؤاد السنيورة يأتي في صميم الجهد المبذول للمواجهة مع طواغيت الشر، ولاستكمال مسيرة الإعمار من حيث توقفت أو أوقفت بالأمر أو بالإفساد المتعمد أو بالفساد المستشري في إدارة يتعذر إصلاحها..
ولقد استقبل اللبنانيون فؤاد السنيورة بترحيب تجاوز توقعه المتحفظ دائماً (وهي من صفات أمين الصندوق).. فهم لا يحبونه، ولكنهم يسلّمون بكفاءته، خصوصاً وقد أضافت عداوة من عاداه إلى »رصيده« وكانت مقارنته بالآخرين من رؤساء ووزراء ونافذين لم يشتهروا بنظافة الكف تزكيه وتمنحه »فترة سماح«، ريثما تنجلي نتائج الحروب بين الشياطين والقديسين التي بلغت ذروتها في الانتخابات النيابية والتي ستتبدى نتائجها الأولية في »تشكيلة« الحكومة الجديدة قبل أن تتكامل عبر أدائها.. الموعود.
* * *
من أين نبدأ الحديث عن حرب الشياطين والقديسين؟
بداية، لا نعرف إذا كان فؤاد السنيورة سيستطيع أن يحصل غداً على تأشيرة لدخول الجنة الأميركية، كرئيس للحكومة، أم أن جرم تبرعه بمليون ليرة لجمعية ترعى الأيتام وهو قد يتكرر، برغم عدم اشتهاره بالكرم قد يحرمه مثل هذه النعمة..
كيف ستكون الحال غداً وفي الحكومة من يمثل مباشرة المقاومة (حزب الله) فينطق بلسانها ويجهر بحربها ضد القرار 1559 وسائر أشكال التدخل الدولي في الشؤون اللبنانية والتي تشمل الآن وجوه الحياة والموت كافة، من التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى الضغط على إجراء الانتخابات في الموعد المقرر ولو بالقانون الأشوه.. ومن نزول »الأف. بي. آي« إلى الشارع، علناً، بذريعة المساهمة في كشف المسؤولين عن جرائم الاغتيال، إلى التوجيهات اليومية العلنية التي يطلقها سفيرا التدخل توجيهاً للبنانيين وإرشاداً لهم وحضاً على حسن السلوك وإلا؟!
والسؤال مشروع طالما أن الحكومة التي ستضم ألوان الطيف السياسي اللبناني كافة، من حيث المبدأ، سيتلاقى في أفيائها مؤيدون للقرار الدولي (وتبعاته) ومعارضون مستعدون للقتال ضده حتى إسقاطه؟!
بل إن الحكومة العتيدة ستضم حفنة من ممثلي أبطال الطوائف وقديسيها لم يسبق له أن اجتمع في أفياء أية حكومة سابقة:
فالعائد من المنفى بطل قديس، وإلى النسيان حروب التحرير والإلغاء، أما التعويضات عن فترة نفيه فهي أبسط حقوقه بالغة ما بلغت.. وبالتالي فمن حقه أن يمثَّل في الحكومة، خصوصاً أنه يعطي نفسه حق النقض (الفيتو) بقوة كتلته النيابية التي يتجاوز أعضاؤها عشرين نفراً، (بمعزل عن مدى التماسك فيها)..
والخارج من السجن بطل قديس، وهو ضرورة حيوية لمواجهة البطل القديس الأول، ومن حقه أن يمثَّل بمعزل عن عدد نوابه، لأن التحالف يضيف إليه ما ينقصه… ثم إن التعويض بحقيبة وزارية هو أضعف الإيمان!
لقد اكتمل، إذاً، النصاب الطوائفي عند القمة، وبات ضرورياً اكتماله في الحكومة..
صار لكل طائفة من يمثلها مباشرة، وبالانتخاب وليس بالتعيين..
فاللبنانيون المتباعدون في القاعدة إلى حد أن كل طائفة ترفض أن تشاركها طائفة أخرى في اختيار ممثليها في المجلس النيابي، يظهرون الآن، عبر حكومتهم العتيدة، التي يفترض أن تضم قادة فيدرالية الطوائف، وكأنهم قد توحدوا أخيراً على برنامج مشترك عنوانه الواضح: فؤاد السنيورة، وهو الاسم الحركي لسعد الحريري، الذي استحضر أباه الشهيد فحكم به نتائج الانتخابات، وها هو يحكم به الحكومة الجديدة، بغير أن يقحم نفسه مباشرة في حومة الصراع، متفرغاً لجلاء الحقيقة في جريمة الاغتيال التي لفظاعتها برّرت التحقيق الدولي وكادت تبرّر أو تحلل ما كان في حكم المحرم.
* * *
أخيراً سنشهد من حول طاولة مجلس الوزراء

عينة من الكوكتيل المتفجر »للشعوب اللبنانية«، وقد ضبطوا خطواتهم تحت ضغط الحاجة إلى التوحد لمواجهة الأزمات الحادة التي فرض عليهم ان يعيشوا في ظلها، وهي سياسية اقتصادية مالية اجتماعية إدارية.. بل لعلها تتجاوز ذلك كله لتتبدى وكأنها »أزمة انتماء« إلى أرض ودولة بنظام وسلطة شرعية..
لقد اعترف الكل بالكل أخيراً، أبطالاً وقديسين، ملائكة وشياطين، بعدما وفرت الفرصة الانتخابات النيابية المثقلة بشعارات القهر والظلم والتعسف.
تلاقى الجميع، أخيراً، وبعدما اعترفوا بغالبيتهم الساحقة ان ليس بينهم بريء!
فالمتهم بأنه قد تورط بالتسهيل لدخول السوريين، بل ذهب إليهم يستنجد بهم على أخوته، والذي سرعان ما انقلب عليهم وحاربهم وحاربوه في ما بعد، يصافح الآن ويتحالف مع المتهم بأنه قد أعان السوريين عليه، حتى إذا ناله منهم مثل ما نال »صاحبه« وأكثر، فك تحالفه معهم وجهر بمعارضته لوجودهم، فلم يكن أمامهم غير الخروج من جنة لبنان كخروج آدم من الجنة.. الإلهية!
وهكذا تأكدت نظرية القائلين بأن سوريا لا يمكنها ان تدخل لبنان إلا برضا المسيحيين (وطلبهم) ولا تخرج منه إلا بطلب من المسلمين.. وبغضبهم!
* * *
وتتبقى مجموعة من الملاحظات التي نعرف ان فؤاد السنيورة يدرك جوهرها:
1 إذا كان المجلس النيابي يتشكل من الممثلين الشرعيين للطوائف، بمعزل عن كفاءتهم وصلابة وطنيتهم، فإن الحكومة يمكنها ان تكون النقيض، بمعنى الا تضم الا الأعلى في الكفاءة حتى تحجب أو تموه طائفية المراجع التي »اختارتها«.
لتكن »القداسة« الطائفية في المجلس النيابي والكفاءة المهنية في الحكومة..
لتبق الطوائف والمذاهب في »المجمع الملي« المسمى البرلمان، تجاوزاً، ولتتحرر الكفاءات من القداسة المزعومة للطائفيين الطامعين باقتسام السلطة ومنافعها (حتى لا نقول باغتصابها)..
2 ان لاتفاق الطائف شهداءه، ولا يجوز ان يتم الانتقام من اتفاق الطائف (واغتياله) بحجة الثأر له ممن حكم باسمه.
3 ان العلاقة مع سوريا قد اديرت خطأ، مما اساء إلى الشعبين الشقيقين، في حاضرهما ومستقبلهما… وتصحيح هذه العلاقة »فرض عين« لا يجوز أن يتأخر، لأنه يلحق الضرر بالدولتين المتكاملتين..
وإذا كان بعض الذين حاولوا تصحيح هذه العلاقة قد سقطوا شهداء وهم يحاولون استنقاذها، فلا يجوز أن يصنف المنادون بضرورة هذه العلاقات وحيويتها كخونة، بينما يرتدي أبطال الخصومة المفتوحة مع سوريا ثياب الشهداء.
4 ان المصالحة الوطنية ضرورة، لكن خونة بلادهم الذين قاتلوا في صفوف العدو الإسرائيلي، ثم التحقوا به عندما أجبر على الجلاء عن التراب الوطني، لا يشملهم أي عفو…
لقد حوكم الآلاف ممن تعاملوا اضطراراً وبقوة الأمر الواقع، وصدرت عليهم احكام راعت ظروفهم الاستثنائية التي فرضت عليهم »التعامل«.. أما الذين صنفوا أنفسهم جزءاً من العدو فهم قد قرروا مصيرهم بأنفسهم.
إن اخطاء الوطنيين تظل تحت الحساب، أما خطايا الملتحقين بالعدو فتقع تحت المحاسبة، في أي بلد في العالم، وعقوبتها الأشد تكون في البلاد الديموقراطية، ويمكن اتخاذ فرنسا نموذجاً.
* * *
انها فرصة تاريخية نادرة لقيام حكومة قادرة على الانجاز.
لا يحتاج فؤاد السنيورة شهادة بكفاءته، أو خبرته في أحوال الدولة، بمؤسساتها وإداراتها، وبأوضاعها المالية والاقتصادية عموماً.
وتشكيل الحكومة كمهمة بذاتها يمكن أن يكون عنواناً للنجاح أو إضاعة لفرصة تاريخية، يندر توفرها.
وفؤاد السنيورة المعروف بعناده، والمتكئ على الاجماع غير المسبوق في ترشيحه لرئاسة حكومة الظرف الحرج، يستطيع أن يرفض المفروض، متكئاً على الكفاءة التي أثبتها سعد الحريري في سعيه لانجاز هذه المهمة شبه المستحيلة، مستنداً فيها على الغالبية التي يحظى بها، كما على رصيد أبيه الشهيد، الذي سيكون أعظم ثأر له في إنجاز ما لم يمكن أو لم يتمكن من إنجازه.
… أما الشطار من الساسة المتباهين بأنهم أحفاد الفينيقيين والذين يفترضون في أنفسهم القدرة على مخادعة »الوصاية الأجنبية« والتحايل عليها بإظهار القبول لمقتضياتها بينما هم يعتمدون على الزمن كما على تناقض المصالح، أو على انهماك الاوصياء في مواجهة مشكلات أكثر خطورة من لبنان، فآن لهم أن يرتاحوا ويريحوا.. ولو قليلاً.

Exit mobile version