طلال سلمان

سلاما يحيى عياش

لم يعرف أحد منا وجه يحيى عياش، مع أننا كثيرد ما كنا نحس بأنفاسه الحارة تلفح وجوهنا… وكنا نشعر في بعض اللحظات أنه يمرق أمامنا كالأمل فنغلق عيوننا على ظله فيها حتى لا يكتشف مطارده الإسرائيلي مكمنه الجديد.
لم يجلس أحدنا إلى يحيى عياش. لم نسمع صوته، ولم نقرأ له تصريحد أو بياند طناند أو خطابد مدويد. لم نتعرّف إلى خطه.. مع أنه كان منتشرد في أفقنا كنسائم صيفية وساطعد بغير إبهار كأشعة شمس جديدة.
وكان أكثر مَن يستحضره فيدخله في اهتماماتنا اليومية وأحاديث السمر هو «عدوه» الإسرائيلي: يتحدث عنه بجزع فيحيي فينا الأمل، ويعظِّمه كأسطورة، فنطمئن إلى الحقيقة الصلبة في وجدان الأمة وفي إرادتها.
ومن زمان تجاوز يحيى عياش الموت: منذ أن صار رمزد، ومنذ أن صار اسمه وحده كافيد لبث الرعب في «الدولة الأقوى» في الشرق الأوسط، والقوة العظمى الرديفة للقوة الأميركية ـ العظمى.
ولقد أعاد يحيى عياش الاعتبار لشعب فلسطين كله بعدما كادت «السلطة» تشوّه صورته وروحه وتقدمه كمرتزق يعمل لحماية الاحتلال الإسرائيلي وإدامته.
ذلك أننا عرفنا مع يحيى وعبره الجميع: تلك الزيتونة المباركة، أمه، «عائشة»، والطود الثابت في الأرض الفلسطينية كجبل الكرمل، أباه، «عبد اللطيف»، وزوجته الأصلب من رمح «هيام»، وأخاه الذي حفظ عن ظهر قلب مواقع الزنازين في السجون الإسرائيلية جميعد، «يونس»…
ü ü ü
«الفلسطينيون قتلوه، الفلسطينيون قتلوه»،
هكذا هتفت الوالدة الثكلى حين تلقت في قريتها «رافات»، بالقرب من قلقيلية، نبأ استشهاده. لقد رأت فورد أن «السلطة» هي الجاني، وقبل إسرائيل ذاتها.
أما الأب فقد استدرك مصححد هفوة الأم المفجوعة: «هذه ليست النهاية، ويحيى لم يكن سوى واحد من بين آلاف الفلسطينيين المستعدين للمضي في الطريق نفسه. العنف لا يولّد إلا العنف. لقد مات يحيى ولكن فلسطين وشعبها لم يموتا»..
فلسطين تغرق في دمها. «السلطة» تقتات من لحم فلسطين، وتشرب من دمها، وتجرِّح كل ساعة روحها. «السلطة» تغطي الاحتلال، وتحمل عنه أثقاله، وتنفذ «المهمات القذرة» لحسابه. «السلطة» تنجز ما قصر عنه الاحتلال: تعتقل من عجزت استخباراته، طوال سنين، عن الوصول إليهم، تكشف هوية الأبطال البلا أسماء وبلا صور في أرشيفه، وتطارد بالوجه الفلسطيني، وبالشعار الفلسطيني وبالبندقية الفلسطينية «فلسطين» الحق والحلم،
ü ü ü
طويلاً عاش يحيى عياش: أكثر من تسعة وعشرين عامد، من بينها أربع سنوات تعادل دهرد، قضاها في مبارزة يومية مفتوحة مع دولة إسرائيل الأسطورية: مع جيشها الذي لا يقهر، مع استخباراتها المصنفة «ممتازة» في العالم كله، مع شرطتها السرية «الشين بيت»، ومع جيش «المتعاونين» من عملائها، هذا قبل أن تنضم «شرطة السلطة» الى المطاردين المذعورين.
طويلاً عاش يحيى عياش: ما يكفي ليؤكد أن الرجال هم الأقدار، وأن الأمة، داخل فلسطين أساسد ثم في كل مكان آخر، ما تزال «ولاّدة»، قادرة على الإنجاب، قادرة على الفعل، قادرة على تغيير ما «قُرِّر» لنا من تاريخ!
يحيى عياش لم يكن الأول،
يحيى عياش لن يكون الأخير.
وفي الجيل الآتي سنتعرّف إلى وجوه كثيرة، أكثر من أن تحصى، تحمل ملامح يحيى عياش.

Exit mobile version