طلال سلمان

سلام ناقص يقتل ابطالة

هل انفجر »السلام الناقص« ببطله فزلزل الأرض والمشروع والمستقبل المرسوم؟
أم انها الطبيعة المتوحشة للسلام المفروض، والذي ثبت ان الدعم الاميركي المطلق له لا يمكن أن يغطي النقص الفاضح فيه، ولذا لا بد من الدم والمزيد من الدم على »القمة« للتوازن مع طوفان الدم الذي خضب »الأرض« بجيلين من ابنائها أو أكثر من أجيال الصراع المفتوح فوقها، والذي يصعب التحكم بنهاياته التاريخية؟!
الثابت، الآن، انه »سلام« قاتل لطرفيه وعلى الجانبين معù: قاتل في القاهرة كما هو قاتل في تل أبيب، وقاتل بالذات لكل من توهم انه يستطيع »بالمغامرة الشخصية« وحدها تجاوز الحقائق الصلبة التي تكاد تماثل الخرافة في اسطوريتها خصوصù وقد بات صعبù التمييز بين الوالدة هنا والمولود!
وهو سلام قاتل لكل من توهم انه قادر على انجازه، فعلا، أو انه قد حقق النصر الكامل في المعركة الاخيرة حين وقف في الحديقة الخلفية للبيت الابيض في واشنطن يتسلم الصكوك وعليها التواقيع جميعù، ومعها جائزة نوبل للسلام!
فأنور السادات سقط في أرض المعارض بمدينة نصر، في ذروة احتفالاته بالذكرى المقلوبة ل»حرب العبور« المجيدة، التي جعلها بأسماء شهدائها هرمù يخلِّد النقص فيها بأكثر مما يخلِّد النصر: فهؤلاء الذين منحوا أرواحهم رخيصة كانوا يستحقون أكثر، أو ان ابناءهم يستحقون مستقبلا أكرم وأفضل وأكثر أمنù..
واسحق رابين سقط في »ميدان ملوك اسرائيل« بينما هو يحاول اقناع جنوده السابقين أو الحاليين (أو المحتملين غدù)، بانتصارات السلام المنقوص نفسه، من وجهة نظر »المتطرفين« أو »الارهابيين« والذين استُقدِموا ليأخذوا الارض على حساب السلام، أو الارض ومعها السلام، وليذهب من عليها الى الجحيم!
* * *
لا يستطيع ورثة رابين من قادة المشروع الاسرائيلي ان ينكروا ان هذا »القاتل« »ايغال أمير« هو ابنهم الشرعي، وانهم من زرعوا في رأسه الافكار القاتلة ثم زودوه بالسلاح من أجل تحقيقها.
أليس هو الشقيق التوأم لغولدشتاين، قاتل عشرات المسالمين جدù في الحرم الابراهيمي بمدينة الخليل، والذي اقتصر عقابه على اتهامه بأنه »مخبول«، بينما تُركت الخليل ومعها الحرم وجوارها، بالناس فيها والمقدسات، رهينة رفاق غولدشتاين من المستوطنين »المتطرفين« الذين يتدخل جيش الدفاع، أحيانù، لحمايتهم من تهورهم ومن ان يقتلوا انفسهم بالسلاح الذي زودهم به؟!
أليس »إيغال أمير« هو ربيب »محطم عظام الفتيان الفلسطينيين«، وبطل حروب التوسع لاستعادة »أرض الميعاد« والهيمنة بالاحتلال المباشر أو بالتفوق العسكري المطلق أو بالدعم الاميركي المفتوح، او بهذه جميعù، على المنطقة كلها ونزع هويتها التاريخية واسمها »الجغرافي«، الوطن العربي، لتغدو »الشرق الاوسط الجديد« بقيادة اسرائيل ولحسابها؟!
اذا كانت »الارض« في جانب، و»السلام« في الجانب الآخر فطبيعي ان يختار »الاسرائيلي« سليل التراث الصهيوني الدموي، الارض وليذهب الى الجحيم السلام مع أولئك الذين يفرون من الحرب الى التنازل بغير حدود، بما يكاد يثبت ان الارض ليست لهم!!
* * *
في هذه اللحظة، من هو الاسرائيلي النوذجي: اسحق رابين ام ايغال امير؟!
من القاتل ومن القتيل؟!
انهما متشابهان حتى لكأنهما واحد!
هل ذهب اسحق رابين أبعد من اللازم عن المنطق الاصلي للمشروع الصهيوني الاسرائيلي الآن والاميركي غدù؟!
هل دفعته الادارة الاميركية الضعيفة الى الذهاب بعيدù في »مغامرته« ثم عجزت عن حمايته من »قاعدته« الأصلية؟!
وهل أغرى ضعفها به خصومه في الداخل ممن يرون انه قد خانهم وانه صار أميركيù أكثر مما يجب، فاستحق عقاب »الاله الاسرائيلي«، كما برر »القاتل« جريمته المشهودة؟!
هل هم الأبناء يقتلون آباءهم المتعبين من الحرب الابدية؟!
هل بات رجل أميركا في اسرائيل هدفù لرصاص التطرف الاسرائيلي الذي يشكل اليهود الاميركيون اعظم قاعدة له، وهي التي توفر له الدعم المادي والمعنوي، وآخر ما قدمته له اعتراف الكونغرس بمجلسيه، في ما يشبه الاجماع، بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، بما يتجاوز ما كان يطلبه وربما ما يستطيع ان يتحمله رابين ومشروع السلام الأميركي الذي يتصدى لقيادته على الأرض؟!
* * *
»لقد استفاق الاسرائيليون، غداة الاغتيال، في بلد آخر«.
هكذا عبرت عن حجم الزلزال بعض الصحف الاسرائيلية صباح امس، الاحد.
وكان رابين نفسه قد لمس هذا المعنى ولكن من الزاوية المعاكسة، اذ قال قبل لحظات من استقرار الرصاصات القاتلة في صدره وعموده الفقري: »كما ترون، فالاشياء تتغير ليس في العالم فقط، ولكن في الشرق الاوسط أيضù، وكذلك بالنسبة لكلينا..«.
ولقد وصل رابين الى الاستنتاج الذي أثبت دمه خطله:
»عرفت دائمù ان شعبنا بغالبيته العظمى يريد السلام، وانه مستعد لتحمل المخاطر من اجل السلام. الشعب يريد السلام ويرفض العنف..«.
لكن العنف ضد الآخر كثيرù ما يرتد الى الذات.
وليس مؤكدù ان تتحقق »نبوءة« بيل كلينتون، الذي بدا امس في صورة من فقد الأب البطل من ان »السلام يجب ان يكون التركة الباقية لرابين الذي فقد العالم بغيابه واحدù من اعظم رجاله، محاربù من اجل حرية شعبه والآن شهيدù من أجل السلام لشعبه«.
والمشروع الأميركي الاسرائيلي للسلام المنقوص مضرج الآن بدمائه في ميدان ملوك إسرائيل،
ومن أسف ان العرب اضعف من أن يستطيعوا اعادة صياغته بما يجعله قابلاً للحياة بإرادتهم وفوق ارضهم، لا بإرادة الآخرين ولا من دون أرض لهم وله.

FacebookTwitterEmailWhatsAppShare
Exit mobile version