طلال سلمان

<حروب> شركاء في خسارة

ليس من باب التكريم لذكرى الرئيس الشهيد رفيق الحريري ان تجعله بعض القوى السياسية موضوع اختلاف أو انقسام بين اللبنانيين… فالحزن الوطني العام على رجل العرب الذهبي شهادة إضافية تؤكد عمق الشعور بافتقاد دوره الاستثنائي في خدمة لبنان (والعرب) في هذه الحقبة الخطيرة من تاريخ منطقتنا بكل ما تحفل به من مخاطر مصيرية.
ومن يستبق ذكرى استشهاد رفيق الحريري باطلاق صيحات الحرب في الداخل، وتوجيه التهديدات في كل الاتجاهات محاولاً استخصام بعض القوى التي كانت شريكة للراحل الكبير في مشروع إعادة بناء الدولة يسيء إلى الذكرى وصاحبها وإلى جهده الممتاز في تدعيم الوحدة الوطنية.
لقد لعب رفيق الحريري دوراً بارزاً في إعادة تأسيس الحياة السياسية في لبنان، وفي تحصين البلاد ضد الحرب الأهلية والفتن، وفي دعم الجهد المقاوم لتحرير المحتل من الأرض، سواء من داخل النظام أو عبر دوره العربي الدولي الذي أضاف إلى رصيد هذا البلد الصغير. وبرغم الاختلاف أو التعارض أو التلاقي معه فإن القوى السياسية مجتمعة تشهد له بهذا الدور الذي شكل إبطاله أو تعطيله فاجعة وطنية لها أبعادها القومية.
وانه من الظلم الفادح للبنان، ولرفيق الحريري بالذات ان توظف ذكرى استشهاده الذي كان جريمة بحق الوطن، لتوسيع شقة الخلاف بين الذين دفعوا الخسارة من هناءة حياتهم في حاضرهم ومستقبلهم.
فاسم رفيق الحريري لا يأتلف مطلقاً مع الحرب الأهلية أو مع الفتنة أو مع النزعة العبثية إلى تدمير جمهورية الطائف التي يعتبر بحق أحد المساهمين الكبار في بنائها، بالصح والغلط فيها، والتي لا تملك القيادات السياسية ان تغامر بوجودها ساعة تشاء، من داخل صراعاتها على السلطة، بينما اللبنانيون غارقون في النتائج الكارثية لهذه الصراعات، اقتصادياً واجتماعياً فضلاً عن المستوى السياسي.
ثم ان اسم رفيق الحريري أكبر من ان يستخدم طرفاً في معركة تبدو غير مبررة حول العهد المقبل ، لا سيما إذا ما نظرنا إليها من داخل حيثياتها المحلية والمنافسة المشروعة بين الموالاة والمعارضة، أي تلك التي تتم بالوسائل السياسية الطبيعية ومن أجل الوصول إلى نتائج سياسية طبيعية.
بعد هذا الاستدراك حول محاولات استثمار الذكرى العزيزة على قلوب اللبنانيين في ما يسيء إلى صاحبها، فقيد الوطن جميعاً، وإلى مشروع الدولة المهددة الآن في وجودها، يمكن الآن مباشرة الحديث في الموضوع .
والموضوع هو: رئاسة الجمهورية التي صارت أرض حرب كونية!
لقد تكتلت دول كبرى ذات استراتيجيات خطيرة على مستوى الكرة الأرضية، وقررت ان على اللبنانيين ان ينتخبوا رئيساً جديداً لجمهوريتهم المتهالكة!
عقدت لقاءات على أعلى مستوى في عواصم القرار ، وخرج مسؤولوها من حملة مفاتيح السلم والحرب ليطالبوا اللبنانيين: أثبتوا ولاءكم للديموقراطية وإلا فأنتم لا تستحقون نعمة الحياة!
خرجت جامعة الدول العربية عن مألوف عادتها في الاكتفاء بالتعليق على الاحداث، بسبب عجزها المتأصل الناجم عن خلافات دولها التي شغلتها عن مستقبلها بيومها، والتي لم تشتهر يوماً بايمانها بالديموقراطية واحترام ارادة شعوبها، بتلاوينها المختلفة يساراً ويميناً، علمانية وتديناً و.. انتخبت للبنانيين رئيساً، ودعتهم إلى التوافق عليه فوراً وإلا…
من محاسن الصدف: انها انتخبت لهم مرشحاً كانوا بصدد التوافق عليه… بعد رفع التحفظ المبدئي عن تقدم العسكري إلى رئاسة الجمهورية بنظامها الديموقراطي ودستورها الذي صار قابلاً للتعديل، مع تجاوز ما كان محرماً قبل أيام!
جاء الأمين العام للجامعة إلى اللبنانيين بالاسم الذي كانوا، قبل هذه القرارات جميعاً، متوافقين عليه ضمناً… فإذا بطرحه، منفرداً، ومن دون صفقة كاملة ، يثير خلافاتهم النائمة جميعاً.
اكتشف الأمين العام ان الرئيس هو قمة جبل الثلج .. وانه لا يمكن بلوغ هذه القمة من دون التوافق على الطريق إليها، وانه لا بد من مربع السلطة ، فإن لم ترسخ القاعدة تحت، فلن يستطيع الرئيس ان يتسلم زمام منصبه فوق..
لم تنجح محاولة القفز إلى أعلى، من فوق المشكلات المعقدة التي باتت تقسم المجتمع اللبناني وتجعله جبهتين متواجهتين، في ظل انقسام عربي خطير… بل ومتفجر.
كان لا بد من العودة إلى الأسباب الأصلية للخلاف. وكان لا بد من تصفية أسباب الخلاف، خصوصاً وقد أضافت إليها مصالح الدول واغراض الاطراف ركاماً من التفاصيل التي اكتسبت جدية لم تكن لها في أي يوم..
تبين بالملموس ان النظام السياسي معطوب: لا صيغته الراهنة تلبي الاحتياج، ولا الاتفاق على تعديلها ممكن الآن..
وتبين ان الطائفية ولادة إشكالات لا تنتهي، وان المذهبية استثمار قد ينفع في تعديل ثوابت الصيغة، ولكن هذه وتلك تأخذان إلى الحرب الأهلية وليس إلى الدولة.
ولأن النظام هو نتيجة توافق عربي دولي، فإن إعادة النظر فيه تتطلب توافقاً جديداً، لا يبدو متيسراً في اللحظة الراهنة.
.. وان الطريق بين طوابق عمرو موسى تبدو مقفلة، وتحتاج إلى جهد خارق لفتحها، ليس للبنانيين دور حاسم فيه.
فالعرب ليسوا واحداً، وليسوا مجتمعين من حول مشروع مشترك،
والتوافق الدولي القديم المعزز أو المساند للتوافق العربي لم يعد موجوداً، وبالتالي فإن التوافق العربي قد أخلى مكانه للانقسام، مجدداً.
والتصريحات كما البيانات والمقابلات خلال الأيام القليلة الماضية، وأخطرها ما قيل بالأمس، ترسم الخط البياني للاحداث في الأيام المقبلة..
إلا إذا حدثت أعجوبة اللحظة الأخيرة، التي كثيراً ما راهن عليها اللبنانيون، وانتظروها طويلاً انطلاقاً من قاعدة علينا ان نخترع الأمل … خصوصاً وان باعهم طويل في الاختراع، لا سيما في الحقل السياسي.

Exit mobile version