جاءت »التحية الملكية« على غير توقع، فكادت تُفسد جو الاحتفال اللبناني المرتبك والمنقوص والمتّسم بكثير من الملامح الفولكلورية، بالذكرى التاسعة عشرة للاجتياح الإسرائيلي في العام 1978 الذي تحوّل الى احتلال ما زال مستمراً لبعض الجنوب والبقاع الغربي.
لم يكن أحد يتوقع أن يكون »الملك« في عداد رجال المقاومة أو داعماً لصمود الناس المحروقة أفئدتهم، المحروقة أشجارهم والمواسم، المحروقة بيوتهم في جبل عامل وما اتصل به من أرض الشهادة،
لم يكن أحد يتوهّم أن يكون »الملك« معنا ضد الاحتلال الإسرائيلي… ذلك وهم خطير سقط وانتهى منذ أجيال…
مع ذلك فقد صدمت »الصورة«، كأية حقيقة باردة وثابتة وقاطعة، اللبنانيين عموماً لا سيما الآلاف ممن قَتَلَ الجنود الإسرائيليون بوعي كامل ومن ضمن خطة رسمية وبأوامر صريحة أبناءهم وفتياتهم، زوجاتهم وأشقاءهم، آباءهم أو أصدقاءهم من الفلاحين البسطاء والطيبين الذين رفضوا أن يتركوا أرضهم للعدو وثبتوا فيها لأنها مصدر القداسة وأساس الإيمان…
وطبيعي الافتراض أن الصورة الحقيقة قد صدمت، مع اللبنانيين، سائر العرب، والأردنيين منهم في الطليعة، فالتقدير ليس في قسوة الرؤية بالعين المجردة: أن يكون »الملك« ملتحقاً بالعدو وفي صفه، يذهب إليه ليؤكد بالاعتذار وعبره وبعده أن سلاحه سيكون معه علينا وليس محايداً أو خارج الصراع، مثلاً!
اقتحم وجع المهانة كل البيوت، أمس.
لم يبك رجل ولم تتحسّر امرأة مفجوعة. لم تصرخ أم ثكلى، ولم يلطم طفل يتَّمه الاحتلال الإسرائيلي. كان الحزن عميقاً كالهزيمة.
ارتاع الناس وهم يرون بعيونهم وليس بخيالهم أكمل صورة لهزيمتهم التاريخية: سليل الهاشميين، وريث تراث »الثورة العربية الكبرى«؟!، بالكوفية (الحمراء) والعقال، واللقب السامي، يطوف ببيوت الإسرائيليين وينحني الى حد الركوع أمام مَن يقبل وأمام مَن يرفض عزاءه في الفتيات اللواتي أودى بهن رصاص جنديه »المجنون« في الباقورة، المطهّرة بمياه نهر الأردن من دنس اتفاق وادي عربة الشهير!
لم يفرح العرب، يومها، بمقتل الفتيات الإسرائيليات، لأنهم رأوا في الحادث خروجاً على »الحرب« ومنها، وأشفقوا من أن تصيب العدوى الإسرائيلية جنودهم (ومواطنيهم) فيقتلون للقتل. وجهروا باعتراضهم وإدانتهم لردات فعل عصبية أو موتورة، مثل هذه، مع تفهّمهم أن سبب المباشر هو الاحتقان والمرارة المترسبة نتيجة للإذلال اليومي.
اعتبروا القتلى والقاتل ضحايا الحلف الشيطاني بين نتنياهو والملك.
القتلى ضحايا غرور القوة وشراسة العنصرية المدمرة والقهر المتعمد والمنهجي للآخرين، وسياسة التطرف التي ترفض الاعتراف بالآخر إلا قتيلاً أو أسيراً أو »عدواً« يدمغ بالإرهاب والخروج على النظام العالمي الجديد…
والقاتل ضحية الانسحاق تحت وطأة الظلم البلا آخر، وتحت وطأة الشعور بالعار من حاكمه الذي صالح العدو على دمه،
أمس، في الصورة الحقيقة كانت الوقائع مثل الملامح تقول كل شيء: توحد الجلاد بمظهريه »الداخلي« و»الخارجي«، مرة وإلى الأبد.
لم يكن ينقص الزيارة الملكية إلا أن يقصد »الحسين« مع بنيامين نتنياهو إلى جبل أبي غنيم لكي يضع معه حجر الأساس للمستوطنات اليهودية الجديدة التي سترتفع كشاهدة على قبر القدس العربية، »العاصمة الجديدة الموحدة والأبدية لدولة إسرائيل«.
* * *
قد يعيد التاريخ نفسه، ولكنه في المرة الثانية يكون ممسوخاً وكاريكاتورياً: كان ركوعاً، بالتاج والنسب الشريف، أمام عدوه المنتصر الى حد رفض الاعتراف بأعدائه، لا سيما من سابق فسبق إلى توقيع صكوك الاستسلام وباعه أو أجّره أو وهبه أرضه رخيصة، ومن جاءه معتذراً عن كل ما تقدم من ذنب العداء (الذي كان مكرهاً على اظهاره)…
… ومع ان الاحتفال بيوم الجنوب يظل ضئيلاً امام موضوعه، خصوصاً حين تشوهه بعض الاغراض، لكن شهداء الجنوب وكل لبنان ما كانوا ليقبلوا »الملك« لو انه جاء لتحية اهلهم الصامدين،
شرف الشهادة ان تحفظ من التجارة، وان تحمى من اولئك الذين يريدون بيع المستقبل كما باعوا الماضي، والا تلطخها ايدي المتعاونين مع العدو والملتحقين به.
ودم شهداء لبنان، مثل شهداء فلسطين وسوريا والأردن ومصر وسائر ارجاء الوطن العربي، في رقبة هذا الملك وامثاله، قبل رقبة القادة الاسرائيليين متطرفين او معتدلين وقتلة دائماً.
وها هي فلسطين تستعد لجولة جديدة من نضالها بدمها من أجل هويتها وحريتها، وقد عرفت الآن وأكثر من أي يوم مضى ان الملتحق بالعدو او المستسلم، بالخوف او بالطمع في سلطة مرتزقة، لا يمكن ان يأخذها الى غدها، بل هو بالقطع متآمر على حاضرها ومستقبلها، وهو ابشع من العدو وأقسى وأولى بالمواجهة حتى لا تلتبس الحقيقة او تموه او تطمس بالاتفاقات التي لا تنفذ أو بأوهام الشراكة المستحيلة.