حين ارتفع صوت »الست الناظرة« باسم ابنه مشفوعا باسم أبيه، فكّر وقال لنفسه: انها تستطيع ان تضيف ما شاءت من أسماء الأجداد الذين لم يعرفوا المدرسة ولم تحملهم أقدارهم الى الجامعة فعاشوا في أحضان أميتهم هانئين.
كانت »الست الناظرة« تواصل تلاوتها البليدة لأسماء الخريجين الجدد، ولاحظ ان ابنه لوحده قد اختار أن يضيف وأن يثبت اسم أبيه… اسمه! أتراه يعوض له بعض العمر الذي مضى خارج دنيا الشهادات؟!
فكّر، وقال لنفسه: لخمسة أجداد، لعشرة، لعشرين، شهادة واحدة تكفي!!
هل يليق به، وبالمناسبة، الآن، ان يستدعي الرازي والفارابي وابن سينا والخليل بن أحمد والخوارزمي، وغيرهم ممن استحضرهم التلفزيون، بلغة هجينة، لكي يثبت ان للعرب علاقة حميمة وقديمة بالعلم، وان من بينهم مكتشفين وفلاسفة وعلماء؟!
وهل عليه أن يرجع ألف سنة الى الوراء لكي يؤكد صلته بالعصر؟!
ثم من يضمن أن يستجيب لندائه أولئك السادة الأجلاء ممن درسوا واجتهدوا وفكروا وجربوا وابتكروا وأضافوا صفحات الى سفر العلم المفتوح منذ بداية الزمان وحتى نهاية الزمان الذي لا يصنعه إلا إنسانه؟!
أليس من محطات وسيطة؟!
وهل على هذا الجيل ان يعوض كل الذين غابوا فلم يقرأوا ولم يقرأ لهم الناس سطرا جديدا في الكتاب المفتوح للقادر على الاضافة وعلى التجديد فيه؟!
المسافة طويلة… أطول من أن يقدر على قطعها جيل واحد! على المنصة الصغيرة والأنيقة كانوا ستة من الأساتذة… وخلفهم كانت تتكدس خبرات مئتي سنة أو يزيد من التجارب والأبحاث والدراسات الميدانية؛ نتحدث فقط عن »الستة« الذين على المنصة، وليس عن الآلاف، بل عشرات وربما مئات الآلاف الذين عملوا ودرسوا فأضافوا، والذين أخذ عنهم هؤلاء »الستة« فأعطوا جيل أبنائهم… وبينهم ابنه!
معظمهم قطع شخصيا، وبسهره وأدبه وبحثه المضني، الفاصل أو المرحلة الانتقالية بين العلم والتكنولوجيا، بين الآلة الحاسبة والكومبيوتر، بين الكهرباء والذرة.
العمر داخل التقدم لا يُحسب بالسنين، لعله بالقرون يُحسب.
كأنما لا عمر خارج وتيرة التقدم.
كأنها أيام تعبر في الفراغ وتندثر فيه، ومعها الذين عاشوها خارج الحياة.
يتقدم الزمان، ونحن على رصيفه. أترانا لم نعد نستطيع أن ندخله؟!
إنه يمشي متخففا منا، ونحن نحاول أن نستبقي معه حبل ود، وأن نقبس كلمات من لغته… لكن النجاح هو تحدي الغد!
حضر الأجداد جميعا حين سمعوا اسم »الحفيد« الذي انتبه إليهم فاستدعاهم. كانوا ممتلئين فرحا، لكنهم لم يعرفوا كيف وعن أي أمر يتكلمون. اكتفوا بأن شدوا على يده ثم عادوا الى مهجعهم الأبدي وقد غلب الخجل الفرحة: انهم لم يورثوه ما ينفعه في يومه وفي غده!
ولكن… ماذا ورثوا هم؟! وماذا كان بإمكانهم أن يفعلوا؟!
حين كان »الآخرون« يفتحون باب التاريخ ليباشروا كتابة صفحاته الجديدة، كانوا »هم« مدفونين تحت غبار راياته السالفة. خنقهم الغبار!
الجامع. لم يكن لديهم جامعة. كان لديهم الجامع. ثم فجأة أُخرج الناس من الجامع وأُغلق… وعندما أعيد فتح أبوابه كان قد غدا مجرد مسجد، وكانوا يدخلونه راكعين ليسمعوا الخطيب يهدد بالموت من يخرج عن إرادة السلطان!
لم يعد جامعا. لم يعد يجمع. ولم يعد شيخه يعلم الصبيان. صار يعلم الكبار كيف يربون عقولهم في صفائح القمامة حتى لا تكشف عصيانهم وتفضح حقيقة أنهم يفكرون!
ذكريات حلم منكسر: مدينة العلماء!
اقتحم المكتب بحيويته ومرحه، وبادرني وهو عند الباب بقوله:
أريد أن أستعير بعض مساحة هوامشك هذا الأسبوع، فهل تسمح لي؟! لن أحرجك، ولن أكتب في السياسة أو عن السياسيين مما ضاق به صدري، بل هي »خواطر« من البعيد ليس إلا…
تقدمت لعناق الصديق العائد من سفر طويل، فأضاف قوله:
أعذرني انني سبقت بالطلب التحية، لكنني ممتلئ بمشاعر متناقضة وأفكار مضطربة، أريد أن أفرغها على الورق فأرتاح.
جاءت القهوة بينما هو يستعيد هدوءه ويعيد ترتيب أفكاره، قال:
كنت في بوسطن، تلك المدينة العائمة فوق الماء، يتناهبها المحيط الأطلسي بالخليج العريض عندها، والجزر المتناثرة أمامها ومن حولها، والنهر العريض الذي يجتازها فيشطرها نصفين. انها أعجب المدن وأغلاها كلفة في مبانيها… لكي تبني عليك أن تدفع بالأساس عميقا حتى يتجاوز الماء الى الطبقة الصخرية؛ وكذا فإن الأبنية بغالبيتها تقوم على أعمدة من خشب تستند إلى الصخر، تحت الماء.
ما علينا من الهندسة، لنعد الى موضوعنا، فالسكان الأصليون لهذه المدينة، بل بُناتها وكل المنطقة المجاورة التي تشكل ولاية ماسوشيتس، هم من البريطانيين والايرلنديين الذين يصعب عليهم مغادرة تقاليدهم، ولذا فهم يعاندون المحيط والنهر، ويعيدون بناء أحياء بأكملها مرة كل بضع سنوات بردم المزيد من الشاطئ، ويدفعون تكاليف باهظة لهذه الغاية، مع أنه كان يكفي ان يتراجعوا بضعة كيلومترات ليقيموا بيوتهم فوق الأرض الصلبة… لكنّ لله في خلقه شؤونا، فسبحان الله!
بوسطن، يا سيدي، هي مدينة العلم والعلماء، مدينة الجامعات والكليات، مدينة الكومبيوتر وكل ما اتصل به من مبتكرات. المدينة التي يدخلها في شهر أيلول من كل عام أكثر من ربع مليون طالب جديد، للدراسة في جامعاتها ومعاهدها، من بينهم حوالى ستة وعشرون ألف طالب أجنبي.
الى بوسطن هذه ذهبت لمناسبة غالية على قلبي: حضور تخرج ولدي من بعض جامعاتها (وفيها ثلاث من المتميزات في العالم)..
لم تكن المناسبة تخص غير الخريجين الثلاثين وذويهم، إضافة الى الهيئة التعليمية.. لذا فقد واصلت »الجماهير« برامجها الخاصة لاجازتها الأسبوعية، بينما تلاقى أمام ذلك المبنى الأنيق والذي لم تشوه حداثته الطابع البريطاني البارد لمباني تلك الجامعة العريقة.
كان يتصدر واجهة المبنى الذي تم افتتاحه قبل شهور قليلة اسم رجل عربي معروف في دنيا المال والأعمال والسياسة وتعليم أبناء الآخرين..
استدرك صديقي ليقول بحدة كمن ينفي عن نفسه تهمة:
لم يكن ابني منهم، وعلى هذا فقد أحسست بشيء من الزهو والمال العربي يظللنا ونحن ندخل ذلك الصرح. هي المرة الأولى التي لا يشعرني المال العربي بالحرج، ولا سيما في الخارج. لقد أضاف الى معنوياتي هذه المرة ولم يحسم منها. ليس ضروريا أن نرفع الرؤوس به افتخاراً، المهم اننا لم ننكسها حياءً.
طبعا، كان هناك من تمنى أن يبني لنا المال العربي جامعاتنا الوطنية، وان يوفر لأبنائنا فرصة التحصيل العلمي العالي في بلادنا، حتى لا يذهبوا الى الخارج فيأخذهم تقدم الخارج منا، فنخسرهم ومعهم فرصة التقدم واللحاق بالمتقدمين، ونزداد بخسارتهم، وهم الأمل تخلفا.
رشف الصديق من فنجان قهوته، قبل أن يعود الى السياق:
هم يسمون بوسطن كعبة العلم. شدتني الذكرى الى »دار العلوم« في بغداد القديمة، أما الذكريات المرة فأخذتني الى حلمين أُجهضا حديثا، أي قبل سنوات قليلة، أحدهما سقط سهوا في ليبيا القذافي، والثاني اغتيل عمدا في عراق صدام حسين.
انتبه الى انه يتوغل في حقل سياسي ملغوم، فأضاف فورا:
لا تخف، لن يكون حديثي في السياسة، بمفهومها السائد، سيتجاوزها عمقا الى السياسات التي لا نعرفها، والتي يمكن أن نسميها السياسات التأسيسية.
استذكرت حلم ليلة صيف، بدا قريبا إلى التحقق ذات يوم في ليبيا..
كانت ثورة القذافي فتية بعد وأحلامها ندية. وتلاقى عدد من المبدعين حول فكرة: إنشاء مدينة للعلماء فوق الأرض الليبية، يعاد فيها تجميع »الأدمغة العربية المهاجرة« الى جانب الكتّاب والفنانين والعلماء المقيمين، بحيث يبدعون جميعا في مناخ من الحرية واليسر المادي في »جزيرة« لا سلطة لحاكم عليها، وليس فيها أجهزة تنصت أو عسس يحصون على الناس الأنفاس.
ولقد كتب توفيق الحكيم، يومها، رسالة بالحلم الى معمر القذافي، فأجابه مرحبا، وبدا ان الفكرة الحلم تأخذ طريقها إلى النور.
أرسل »السفراء« الى أربع رياح الأرض، فاتصلوا بالأساتذة والخريجين من أصل عربي، وكذلك بالدارسين والباحثين والعلماء »المتعاطفين«، إضافة الى الطلبة العرب (الدراسات العليا مع التركيز على الاختصاص العلمي)..
أقيمت لجان خاصة للاستقبال. حُجزت الغرف في الفنادق والسيارات في المطار، وأُعد برنامج للاحتفالات وولائم التكريم ولقاءات التوجيه إلخ.
مع أول طائرة بدأت الفضائح تدوي، ثم تعاظمت مع الطائرة الثانية فالثالثة حتى لم يعد ممكنا حجبها: كان الأجنبي، أو من يحمل جواز سفر أجنبيا باسمه »الجديد«، يلقى الترحيب والتكريم، أما »العربي« أصلا والذي يهبط الى الأرض العربية فرِحا ويرد على تحية المستقبلين بأجمل منها، وبالعربية، فكان يلقى الإهمال وأحيانا يتلقى الاهانة، خصوصا متى عرف مقدار المبلغ الذي سيتقاضاه، أو طلباته من الكتب والتجهيزات التي يحتاجها لإكمال دراسته.
لم تعمّر الفكرة إلا شهورا قليلة، وأحدث انهيارها صدمة عنيفة، وتعمقت المرارة وخيبة الأمل في صدور العلماء المغتربين«، بل ان بعضهم مزق جواز سفره العربي في أرض مطار طرابلس وهو يقسم الأيمان المغلظة بانه لن ينطق بالعربية مرة أخرى..
أما في بغداد صدام حسين فكانت التجربة أقسى وأمر. كان المطلوب ان يشكل العائدون تظاهرة تأييد حاشدة للقائد الفذ.
تهاوت الوعود في إقامة »مدينة العلماء« حيث لا رقابة ولا رقباء، وحيث يكتب كل بحرية، يفكر بحرية، يرسم بحرية، ينحت بحرية، يجرب بحرية، يدرس، يبحث، يحاول خرق الحجب بحرية، ويمارس الفشل بحرية، توخيا للوصول الى النتيجة المرجوة ولو بعد حين..
مَن هو العالِم بالمقارنة مع السلطان؟!
السلطان، كالله، يعرف كل شيء عن كل الناس وعن كل أمر، أما العالِم فمجرد باحث يقرأ في كتب مشبوهة ويكتب كلاما غير مفهوم، وقد يجرب ما فيه الخطر والخطورة على أمن النظام، وقد يحرّض على أولي الأمر باسم الحرية!
لا بد إذاً من سقوط الأنبياء الكذَبة قبل إقامة مدينة العلماء أو دار العلوم!
ولقد مات أديبنا العظيم توفيق الحكيم نادما على انه شجع أو تبنى أو أطلق للفكرة التي سرعان ما غدت تهمة، في ما بعد.
قُضي على واحد من الأحلام، بل الآمال العريضة، بأن نستعيد أبناءنا الذين يهاجرون الى العلم والحرية في الخارج، والى الحالمين أحلامهم بل لعلهم رموها لأكلة الأحلام من حكامنا النشامى..
كنت غارقا في شجني حين أنهى الصديق حديثه.
وقف بهدوء، نظر اليَّ فقرأ ألمه في عينيّ، فخرج من دون وداع، وتركني مع أحزاني ومع خوفي المتزايد الآن على أبنائنا الدارسين والذين ندفعهم دفعا الى الغربة والى توظيف كفاءاتهم في خدمة.. الأجنبي، بينما نحن نشكو تفوقه المخيف.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
دع لحبيبك فرصة للتنفس. لا تفرض عليه أن يقطع المسافات الطويلة سباحة كل يوم ليؤكد لك حبه. الحب أيضا بحاجة الى الهواء والشمس، فلا تغلق على حبيبك الباب والنوافذ لتتأكد من إخلاصه. انه إن رأى أكثر أحبك أكثر، وان سمع كلاما أرق وأندى غزل شعيرات قلبه قصيدة جديدة فيك. أما إن بقي أسيرك كل الوقت فلن تكون أمامه الفرصة للاختيار، وسيظل حبه رهنا بألا يعرف من الألوان غير لونك، ومن الأسماء غير اسمك، ومن الكلمات غير ما سمعه منك. أطلق حبيبك تحفظْ حبك.