الكلام فخم وطيب، والعواطف حارة وصادقة، والأخطار قليلة في السياسة وان كانت متعددة في البروتوكول. هذا يعني ان زيارة جاك شيراك الى لبنان قد حققت اهدافها كاملة: فهي قد مرت بسلام، ولم تلحق خسائر تذكر لا بالراعي ولا بالضيف الكبير الذي كان »الأول« بقرار منه، ولا بشهود الحال »حاضرين« على الأرض مباشرة، او منتشرين في السماء والهواء ونور الشمس..
ويمكن لأهل الحكم في لبنان ان يحفظوا هذا الجميل لجاك شيراك طويلاً، فهو حاول جاهدù ان يضيف الى رصيدهم، ماديù ومعنويù، ما استطاع: من الهبات الى القروض الى الاوسمة، الى الترشيد والنصح المعزز بمساعي الخير لتخفيف ضغط المقاطعة والمعترضين ودفعهم في اتجاه الانخراط في سلطة الطائف وتزكية صورتها الديمقراطية بالمشاركة في انتخاباتها، مع وعد بتحسينات في القانون.
لا يكلف الله نفسù إلا وسعها…
لكن هذا لا يغير كثيرù من طبيعة الوقائع والظروف،
فلا جاك شيراك هو الجنرال شارل ديغول، ولا هو »امتداد« آلي لسياسته، ولا هو يطمح لأن يبتعد الى اقصى مما ذهب زعيمه الذي كلفته انتصاراته الدولية هزيمة داخلية مرة.
كذلك ففرنسا اليوم ليست هي فرنسا الستينيات، وقد ذوى الطموح الى الندية واحتلال موقع »القطب الثالث«، منفردة اذا امكن او من ضمن اوروبا موحدة بقيادة فرنسية ألمانية تبعد تلك الجزيرة البريطانية المتمردة والمنفصلة عن »أمها« لتلتحق »بابنتها« التي غدت »زعيمها«، الولايات المتحدة الاميركية.
بل ان »القطب الثاني« نفسه قد سقط وتوزع ايدي سبأ، مخليù مساحة اضافية أمام »القطب الاول« ليغدو من ثم قطبù اوحد، وليتقدم لاقتحام اوروبا وإسقاط احلامها بالاستقلالية والندية والمشاركة المتكافئة سواء في شرقنا هنا، عبر مؤتمر مدريد، او حتى في شرقها هي (يوغوسلافيا) حيث أصرت واشنطن على إقرار الحل برعايتها المنفردة والمباشرة في دايتون، تاركة لباريس شرف الصورة، ولكي تأتي في اطار امبراطوري مهيب باستغلال بعض قصور الماضي الأوروبي التليد.
فالمستقبل حتى في اوروبا ولها يصنع في الولايات المتحدة وليس خارجها،
أما لبنان فلا هو مستعمرة الأمس البعيد، ولا هو »جوهرة الشرق« او المركز الدبلوماسي والاعلامي وبؤرة الحيوية السياسية وساحة الصراعات الفكرية والحزبية للشرق كله، ومن ضمنها او على هامشها أحلام التغيير بالثورة او بتأجيج الصراع الطبقي او عبر الهجوم القومي المباشر على القلاع »الرجعية« التي تحتضن الاستعمار قديمه والجديد.
.. او حتى عبر تحرير فلسطين، او بعضها، او بعض القدس منها!
فرنسا شيراك مختلفة عن فرنسا ديغول بقدر ما هو لبنان الهراوي مختلف عن لبنان »جنراله« الديغولي هو الآخر فؤاد شهاب: هي عاجزة عن ان تعطيه اكثر مما اعطى رئيسها الصديق، وهو عاجز عن أن يأخذ اكثر مما اخذ »العزيز رفيق«،
وهذا لا ينتقص من أهمية الزيارة والزائر،
لكن الواقع ان شيراك يجيء من فرنسا مثقلة بأزمتها الاجتماعية الطاحنة التي تستهلك شعبية رئيسها الديغولي وحكومته بوتيرة متسارعة، وهي ازمة تحمل على صفحتها الاولى بصمات الحليف الاميركي وربما بعض »الشغب اليهودي« حسب بعض التفسيرات الفرنسية والعربية القريبة من الحكم الديغولي بطبعته الثانية.
كذلك فلبنان مثقل بالإشكالات السياسية والضائقة الاقتصادية الاجتماعية التي أمكن محاصرتها في مقر الاتحاد العمالي العام وتعذر عليها الخروج الى الشارع… لكن الشارع نفسه يحمل آثارها الموروثة بنسبة كبيرة من زمن الحرب، مع إضافات جاءتها من سوء الادارة ومن الخلل في تحديد الأولويات ومراهنة فيها من الادعاء الطموح أكثر مما فيها من احترام الأرقام والوقائع القاسية للتحولات الدولية التي وصلت الى المنطقة العربية في أبشع صورها عبر »عاصفة الصحراء«، ممهدة بذلك للاجتياح الاسرائيلي الجديد تحت لافتة السلام الأعرج والقاتل لموقّعيه.
مع ذلك، فالزيارة مفيدة للطرفين، لبنان وفرنسا، وللأطراف المعنية مباشرة أو مداورة بهذه البوابة المغرية والخطرة للشرق، أي لسوريا بداية ثم للولايات المتحدة الأميركية ولإسرائيل أخيرù.
ففرنسا شيراك تجيء في محاولة لوصل ما انقطع على صعيد »عملية السلام«، ولكن محاولتها المقبولة سوريù تظل أقل جدية من أن تزعج إسرائيل، وتظل دائمù تحت السقف في التصور الأميركي لمستقبل هذه المنطقة.
فالزيارة »شهادة للبنان« فعلاً، وهي رسالة »تضامن وأمل«،
وإذا كان رفيق الحريري قد »اكتشف فرنسا، ويا للغرابة، بينما هو في المملكة العربية السعودية«، كما قال الرئيس الضيف، فإن جاك شيراك قد أعاد اكتشاف »لبنان« الذي لم يعرفه زعيمه شارل ديغول، من خلال هذا الحريري نفسه،
وقد لا يكون »لبنان المستقبل« هو ذلك الذي رآه جاك شيراك في قريطم مساء أمس، لكن الذي رآه صباحù في بكركي، أقرب إلى لبنان الماضي،
ولعل زيارة الرئيس الفرنسي بمضامينها الغنية تنجح في تضييق المسافة بين الرؤى المختلفة للبنان الذي يريده الجميع واحدù.