طلال سلمان

شباب لبنان انتخابات في ما يتجاوز موالاة معارضة

أما وقد بات موضوع الانسحاب السوري وراءنا، فمن البديهي أن يتركز الاهتمام على صورة مستقبل لبنان بنظامه السياسي الذي عاد ليكون موضع اختلاف جدي، وإن كان مضمراً أو مموهاً بشعارات خادعة توحي بوحدة مفترضة، بينما ما خلف الشعار يشير إلى انقسام جدي حول ما كان إلى ما قبل شهور في منزلة البديهيات.
وبقدر ما كانت الشعارات والهتافات شبه موحدة في التظاهرات التي نزل إليها كل شباب لبنان فملأوا الساحات والشوارع، فإن الترجمة الفعلية لهذه الشعارات ليست واحدة، كأنما هناك أكثر من معنى لكلمات مثل »الحرية« و»السيادة« و»الاستقلال«.
مؤكد أن شباب لبنان، على الضفتين كانوا صادقين في مطالبتهم بالحرية والسيادة والاستقلال.
ومؤكد أن هؤلاء الشباب على الضفتين لهم آراء متقاربة في ما يتصل بالنظام القائم وليس فقط في سلطته، تتجاوز التباين في مواقفهم من »الوجود السوري« في لبنان..
فلا الذين نزلوا إلى ساحة رياض الصلح يعتبرون هذا النظام بتطبيقاته العملية محققاً لطموحاتهم في »وطن«، فضلاً عن »حكم صالح« يقوم على أساس ديموقراطي سليم، أو يقترب بهم من أن يكونوا فعلاً »مواطنين« متساوين في الحقوق والواجبات..
ولا الذين نزلوا إلى ساحة الشهداء كانوا يملكون تصوراً واضحاً للنظام الذي يطمحون إلى قيامه في بلدهم الصغير، بعد الخروج السوري وقدوم »الدول« وانفتاح الأبواب على مصاريعها أمام تدخلها في أدق تفاصيل حياتهم اليومية.
وبالتالي فإن تصنيف جمهور ساحة الشهداء بأنه »معارض« وجمهور ساحة رياض الصلح بأنه »موال« فيه تجاوز على الواقع، بمعزل عن الرأي في القيادات هنا وهناك.
الأدق أن يقال إن »الجمهور« يكاد يكون واحداً (والحديث دائماً عن الشباب) في مواقفه المبدئية وفي طموحاته الحقيقية، حتى وإن اختلفت المواقع واختلف التعبير عن تلك المواقف وإن ظلت الشعارات واحدة.
وبمعزل عن المناورات والمناورات المضادة التي تلجأ إليها قوى المعارضة على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها الفعلية وبين قوى »الموالاة«، التي ليست موحدة في رؤيتها وفي تصورها لنظام المستقبل، فإن مجرد طرح العودة إلى اتفاق الطائف في قانون الانتخابات، واعتماد المحافظة كدائرة انتخابية والنسبية قاعدة لاحتساب الأصوات قد أحدث نوعاً من الانفراج الواعد بتلاق ما، قد يكون عريضاً بين الجمهور الواحد الذي صورته التعارضات في المواقف المعلنة وكأنه »جمهوران«.
ويمكن الافتراض، بداهة، أن مثل هذا المطلب من شأنه أن يجمع الأكثرية الساحقة من شباب لبنان، الذين هتفوا صادقين ضد الطائفية واستطراداً ضد القوانين الانتخابية التي اعتمدت، وضمناً ضد مشروع القانون الذي أحالته الحكومة المستقيلة إلى المجلس النيابي والذي يعود بالبلاد وأهلها خمسة وأربعين عاماً إلى الوراء.
الأدهى أن التبرير »الشرعي« الذي أعطي لتلك »الردة« هو الادعاء بأن الهدف منه تطمين المسيحيين إلى أن أحداً غيرهم لن ينتخب لهم، أو لن يشاركهم في اختيارهم »الحر« لنوابهم!!
لكأن الانتخابات النيابية أمر يتصل بالطقوس الدينية وليس بالعملية الديموقراطية، بمعنى أنها مناسبة لكي يعود المواطن من دولته إلى طائفته، ولكي تسقط المواطنة عن الجميع ليعودوا مجرد رعايا لمراجعهم الدينية بدل أن تكون هذه العملية الديموقراطية الممر الإلزامي لتأمين صحة تمثيلهم وبالتالي مشاركتهم الفعلية في إقامة حكمهم الوطني المعبّر عن مصالحهم والمحقق لطموحاتهم الطبيعية.
إن قانون الانتخاب القائم على أسس بحت طائفية سينتج مجلساً نيابياً هو في أحسن الحالات ائتلاف بين الطوائفيين في مختلف الدوائر.
أي أنه سيلغي فعل الإرادة الحرة، والمعايير الديموقراطية البديهية، وبالتالي شروط السلامة الوطنية، فضلاً عن النزاهة والاستقامة، في اختيار من سيكونون »نواب الأمة« ومشرعيها، ومن ثم ولادة »السلطة الشرعية« التي ستحكم باسم الشعب ولصالحه.
حتى لو اعتبرنا أن هذه الخطوة مجرد »تكتيك« ناجح لجأت إليه قوى »الموالاة« التي كادت تسجن نفسها في خانة الدفاع عن نظام أو عن سلطة فقدت شعبيتها منذ زمن بعيد، فإن طرح العودة إلى الأصل، أي إلى اتفاق الطائف، باعتماد المحافظة والنسبية أساساً للقانون الجديد للانتخابات النيابية يقارب طموحاً معلناً عند شباب لبنان الذين خرجوا مدفوعين بفاجعة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ليعبروا عن ضيقهم بكل ما كان يعطل بل ويمنع مشاركتهم في الحياة العامة… وبين تلك المعطلات ما يتجاوز الوجود السوري إلى تواطؤ عملي بين مختلف القوى والقيادات السياسية على استرهان إرادة التغيير وتعطيلها ولو باللجوء إلى أسلحة محرمة وطنياً كاستثمار الطائفية في العمل السياسي.
وضيق الشباب بقوانين الانتخابات التي استحدثت خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية جعلت نسبة كبرى (وربما النسبة الكبرى منهم) تمتنع عن المشاركة في الاقتراع، اللهم من كانت نجحت الأحزاب والتنظيمات والهيئات الطائفية في استرهانه وتعطيل دوره الوطني.
ولو كانت المعارضات التي جمعها، على حين غرة، اغتيال الرئيس الشهيد، كدليل إضافي على فشل السلطة القائمة وتخلفها وقصورها عن القيام بدورها المفترض، صادقة في مطالبتها بالديموقراطية لكانت هي من بادر إلى رفع شعار العودة إلى الطائف واعتماد المحافظة والنسبية أساساً في أي قانون للانتخاب يُراد منه إشراك الأجيال الجديدة في العملية الديموقراطية على قاعدة أقل طائفية وأصح تمثيلاً.
إن الإنجاز اليتيم الذي يمكن أن يحققه المجلس النيابي الحالي هو أن يقر مثل هذا القانون العتيد، بديلاً من مشروع القانون ذي المفعول الرجعي والذي يراد به إعادة الحركة الديموقراطية إلى الخلف وتثبيت النظام الطوائفي بإنتاج نواب أكثر طائفية وبالتالي أقل وطنية، أو بتعبير آخر أقل إيماناً بالحرية والسيادة والاستقلال والوحدة الوطنية.
إنها فرصة لكي يقدّم الطاقم السياسي الحالي، بمعارضيه والموالين (الذين تبادل كثير منهم الأدوار والمواقع) شهادة براءة من اتجاره بالطائفية والمذهبية لإدامة ظله على الحياة السياسية في لبنان الذي مع قوانين انتخابية طائفية لن يتوحد تماماً ولن يكون نظامه ديموقراطياً ولن يجد شبابه في ظلها ما يحقق الحد الأدنى من طموحهم إلى دولة لكل مواطنيها.
إن الطائفيين والمذهبيين لا يبنون ديموقراطية، ومطالبتهم بمثل هذا الإنجاز التاريخي يشابه

دعوتهم إلى الانتحار.
وبديهي الافتراض أن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين يريدون الخلاص من النظام الطوائفي الذي طالما قادهم إلى الحروب الأهلية، وطالما زيف مطامحهم وأظهرهم متناقضين مع أنفسهم إذ يطلبون العلمانية من الطائفيين ويطلبون الديموقراطية ممن لم يصلوا إلى مواقعهم إلا على جثتها.
بديهي الافتراض أيضاً أن قوى الموالاة قد لجأت إلى هذا الشعار الجذاب لإحراج المعارضة وتفريق صفوفها على قاعدة المصالح الانتخابية.
لكن لبنان الذي هتف له شبابه، حراً سيداً مستقلاً، بنظام ديموقراطي يمكنهم من المشاركة في بنائه، لن يقوم بترميم هيكله السياسي بالحجارة الطائفية القديمة.
إن شباب لبنان يستحقون أكثر بكثير مما تعدهم به »الزعامات« التي يديمها اعتماد الطائفية مرجعاً لحياتهم السياسية.
إنهم يستحقون فرصة لتأكيد وجودهم ومن ثم دورهم في بناء »الوطن« الذي غيّبته الصراعات حول السلطة فيه بأسلحة فاسدة، بينها الاستعانة بالخارج، عربياً كان أو أجنبياً…
وها هو الأجنبي قد صار في داخل الداخل يريد أن يعلمنا الديموقراطية ولو عبر الانقسام الوطني، الذي يبرر ذاته بالخلاف على حجم ما هو طائفي في قانون الانتخابات للألفية الأولى في القرن الحادي والعشرين.

Exit mobile version