الصورة لا تعكس الحقيقة، دائماً… وأبرز مثال اليوم صور الموفدين الدوليين وهم يتنقلون، تسبقهم صفارات الدراجين المكلفين بفتح الطرقات أمامهم، بين وزارة الخارجية ومقار الرؤساء الثلاثة، ليقولوا ويعيدوا القول، ثم ليصرحوا ويعيدوا التصريح بضرورة »ضبط النفس« و»الحرص على عدم زيادة التوتر« في المنطقة المأزومة والمهددة بانفجار خطير قد يضعها »على شفا حرب لا تبقي ولا تذر«!.
أما ان الوضع خطير فهذا ما لا جدال فيه، وإلا لما كان أطل علينا مجدداً الموفد الاوروبي موراتينوس الذي يسمع لغيره ويقال له القليل القليل فيقول للإعلام الكثير الكثير من الكلام الهش المفتقد المعنى.
… ولما كان جاء هذا الموفد الروسي رفيع المستوى الذي يسمع بالانكليزية ويفهم بالروسية ويصرح بالعربية.
… ولما كان قصد رجل المهمات الاميركية الدقيقة في المنطقة العربية وليام بيرنز، بيروت (ودمشق) خصيصاً، ليشرح لهما ما لم يتمكن من انجازه وزيره الجنرال كولن باول خلال جولته »الاسرائيلية« في المنطقة. وبيرنز، في اي حال، أعرف بالمنطقة من وزيره اذ انه مكث سنوات في »المرصد الاردني« يتابع اندفاعة التطرف العنصري في اسرائيل وتأثيراتها المباشرة على مناعة السلطة الفلسطينية التي أرادت الاستقواء بالانتفاضة لتخيف بها فوجدت من ينبهها الى ضرورة ان تخاف منها اولا، اقله بقدر ما تخاف الانظمة السابقة الى المعاهدات المنفردة من هبّات الغضب الجماعي.
على أن اللبنانيين لا يُظهرون كثيراً من القلق بسبب ازدحام الموفدين الدوليين، ذلك انهم على ثقة من ان اي موفد سيستمع الى سياستنا الخارجية بأربعة ألسنة، سيعود من بيروت وقد اقتنع كليا بوجهة نظرنا المحددة والقاطعة الوضوح بحيث لا تحتاج الى اكثر من اربعة شُرّاح، هذا اذا ما أسقطنا من الحساب المترجمين وكبار الموظفين المولجين بتدوين المحاضر التي تتضمن معلومات أقل من تلك التي يسردها اي صحافي في »تحليله الإخباري«.
للمناسبة: يُتوجب على أجهزة الإعلام اللبنانية، أرضية وفضائية، مرئية ومسموعة ومكتوبة، ان تتوجه بالشكر العميم الى السادة الموفدين الدوليين الذين »بازدحامهم« في بيروت أعطوا جيش المندوبات والمندوبين والمخبرات والمخبرين والمصورات والمصورين، فرصة ممتازة للعمل بقدر من النشاط بعدما كان هدّهم الخمول نتيجة لخواء الحياة السياسية في لبنان، إن على المستوى الرسمي او على المستوى »الشعبي«.
ثم إن للشكر سبباً إضافياً: فحركة الموفدين أيقظت »المخدَّرين« والتائهين أو »المسطولين« بتأثير »عبقة الحشيشة« التي ملأت الفضاء والهواء وأدارات الرؤوس، وشغلت الجميع عن المخاطر المصيرية التي تتهدد المنطقة بسبب جنون العقل الاسرائيلي الذي يعصف بفلسطين ويمد ظله الاسود فوق بعض لبنان، في ما يتجاوز مزارع شبعا والخط الذي كان أزرق وبات الآن كقوس قزح يتشكل من ألوان الطيف جميعاً!.
وعلى سبيل المثال، فإن الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء قد انتهت بلا قرارات، لأن السادة الوزراء كانوا تحت تأثير الحشيشة فلم يعوا، ثم إن دخان المازوت حدّ من رؤيتهم، وتقنين الكهرباء أظلم طريقهم فوقع خلط في اوراقهم واستحال التمييز بين الصح والغلط، وخاف الجميع من التنصت، وخصوصاً أن سنترالات التخابر الدولي ما تزال مفتوحة،. فكان أن رُفعت الجلسة انتظاراً لوضوح الرؤية!.
في العادة، لا يدل تزاحم الموفدين على الخير. إنهم مثل أسراب الصحافيين الأجانب الذين لا يجيئون إلا كنذير بأيام سوداء.
ومن قبلُ، كان الموفدون الاجانب يأتون لإقناعنا بأن الحكومة الاسرائيلية تميل الى الاعتدال (بيريز، ثم باراك على وجه الخصوص)، وأنه يُستحسن ان نلاقيها في منتصف الطريق.
أما الآن، فإنهم يأتون لإقناعنا بأن شارون هو شارون، البطاش، السفاح، القائد العسكري الذي لا يُهزم، العنيد الذي كان يعصي أوامر رؤسائه، فكيف به الآن وهو رئيس الرؤساء، والمنتخَب المعبر عن ارادة الاكثرية الساحقة من الاسرائيليين؟!
اتهم يأتون ليقولوا: لا تناطحوا الثور، ولو بدا وكأنكم تتنازلون قليلا او تتراجعون عن بعض مطالبكم المحقة. لا تستفزوه ولا تواجهوه، فهو لن يتراجع، ولا مجال للجمه. فلا واشنطن تقدر على هذه المهمة المستحيلة ولا اوروبا بطبيعة الحال. وهذه نتائج زيارته لألمانيا (خاصة) ثم لفرنسا، تكشف كم هو عاتٍ، وكم »هم« مستضعَفون أمامه!.
مع ذلك، وبغض النظر عن مشاعرنا المكلومة، فأن يجيء الموفدون ولو لتحذيرنا او لترويضنا، أفضل من تجاهلنا وشطبنا عن الخريطة!.
ثم إن التسلي بحكاياتهم يظل ألطف من انشغال البال بخلافات الرؤساء، او صراعات المتحاورين حول عناوين الحوار الذي يبدو أنه مسجون خلف باب مغلَق ضاع الجميع عن مفتاحه!.