طلال سلمان

شارع كجرس انذار

يعيش لبنان كثيراً من المفارقات، لكن أطرفها بل أخطرها أن دولته بحكومتها ومجلسها النيابي ورئاسات الحكم والظل وأحزابها ومنظماتها السياسية والنقابية، كل تلك المؤسسات والهيئات غارقة في العمل السياسي حتى أذنيها، بينما مسائل الاقتصاد وبالذات منه الهموم المعيشية متروكة للريح.
بالكاد تستوقف شؤون حياة الأربعة ملايين لبناني، المزارع منهم والصناعي، العامل ورب العمل، خريج الجامعة والباحث عن لقمة عيشه في أي مكان وبأية شروط، أهل السلطة والسياسة، إلا في باب المزايدات والمناقصات وبقصد الإحراج ورمي المشكلة على الآخرين وليس بقصد الاشتراك في مسؤولية البحث عن حلول عملية واعتمادها من فوق الخصومة أو النكاية، رفقاً بالناس… الناس رجالاً ونساءً وفتية وصبايا وأطفالاً يحتاجون الخبز والحليب والدخل الشرعي الذي يحفظ الكرامة ويحفظ للوطن أهله.
تُخاض المعارك في مجلس الأمن الدولي وعلى قراراته وضد المتحكّمين في إدارة هذه اللعبة الجهنمية، ولتنفيذ أو لمنع تنفيذ ذلك المسلسل الذي لا ينتهي من الأوامر والنواهي والنصائح التي تتعرّض للعلاقات في ما بين اللبنانيين ثم بينهم وبين الفلسطينيين الذين على أرضهم، وبالطبع بينهم وبين السوريين الذين أخرجوا من جنة أرضهم في ما عدا بضعة كيلومترات نتهمهم باحتلالها في عرسال ونطالبهم بالجلاء الفوري عنها وبضعة كيلومترات أخرى في مزارع شبعا يقرّون بلبنانيتها فنرفض ونطالبهم بالاستمرار في ادعاء ملكيتها ونصر على أن نسامحهم بها فإن ظلوا على رفضهم تركناها للإسرائيلي، ولو محتلاً، لنضيف مشكلة جديدة إلى مشكلاتنا الداخلية وسبباً إضافياً للحرب ضد سوريا.
تسقط حكومة وتشكل حكومة أخرى تحصر مهمتها في تنفيذ أمر العمليات الدولي: الانتخابات.
تأتي حكومة جديدة باسم الأكثرية، وتذهب إلى المجلس النيابي ببيان وزاري ائتلافي يتضمن تعهدات ثقيلة على المستوى الاقتصادي، وفي الشأن المعيشي تحديداً.
تختلف الحكومة في ما بينها.
تختلف الحكومة أو أكثريتها مع رئيس الجمهورية.
تتفق الحكومة في ما بين أطرافها.
تتفق الحكومة مع رئيس الجمهورية فتلتئم تحت رئاسته وكأن شيئاً لم يكن.
يغيب مجلس النواب لأن المسائل المطروحة متفجرة بما يُعجزه عن التصدي لها باقتراحات الحلول.
يصير رئيس الحكومة سندباداً جوياً لا يكاد يغط حتى يطير، ويلقى ترحيباً مبالغاً به، في الغالب الأعم، في عواصم القرار.
تؤسس هيئة الحوار الوطني كمانع للصواعق والتفجرات: يلتقي الأقطاب وتلتقط لهم الصور التذكارية فيبدون وكأنهم لوردات، ويصرّحون بعظمة أهل الحل والربط..
لكن مشكلات الحياة اليومية للأربعة ملايين لبناني تظل في الشارع، لا تجد من يهتم بحلها، ولا تتسع أوقات مجلس الأمن وقمة الخرطوم ولقاءات جورج بوش وجاك شيراك وجماعة البنك الدولي وجماعة صندوق النقد الدولي، وأهل الخير من مسؤولي الصناديق العربية والإسلامية للبحث في أسبابها المعتقة ونتائجها المتفجرة.
مع ذلك تتدخل سياسات المراجع الطائفية فتقسم الرغيف وحقوق المعلمين والعمال والمزارعين والمضمونين والمطالبين بأن ينسَّبوا إلى الضمان…
وهكذا تصير المسألة طائفية فمذهبية، ويصير المطلب الموحِّد سبباً إضافياً للانقسام، مع أن الرغيف هو الرغيف، والبطون الفارغة لا يشبعها الشعار الطائفي والدخل العاجز عن إقامة الأود لن تزيده الحمى المذهبية بحيث يصبح نبعاً للخير يفيض عن حاجة أهله الجائعين والهاربين إلى أربع رياح الأرض طلباً للرغيف ولو على حساب الكرامة الشخصية (وكرامة الشهادات).
حتى الرغيف لا يوحِّد في هذا البلد الصغير، مع أنه مالئ مجلس الأمن وشاغل إمبراطور الكون.
… ومع أن اللبنانيين أصحاب خبرة عظيمة في أن الطائفية متى دخلت السياسة خرّبتها وحوّلت الخلافات بين الأطراف إلى مشروع جديد للحرب الأهلية… بين جائعين!
والشارع قد لا يكون أرض الحل، ولكنه قد يكون جرس الإنذار بضرورة التنبّه إلى خطورة الغيوم السوداء التي تسد الأفق وتنذر بشر مستطير.

Exit mobile version