تألمت، وأنا ابن التسعة أعوام، وأنا أسمع أخبار العدوان الصهيوني ضد الفدائيين الفلسطينيين في عام 1973. وقتها، كنت طالباً صغيراً، لكنني وجدت نفسي أمام هجمة قوات السلطة اللبنانية على المخيمات الفلسطينية، منحازاً الى جانب الفدائيين. لم أكن أكنّ لرموز السلطة أيّ مودّة، فهي عنوان التمييز والعنصرية والإهمال والاضطهاد والحرمان.
باكرًا، بدأت بمتابعة الأوضاع السياسية. وكنت أنفق مصروف الجيب اليومي الذي يعطيني إيّاه والدي على شراء صحيفتين، «النهار» أولاً، ومن ثم «السفير». وأذكر جيداً أيام الـ 15 قرشًا والـ 25 قرشًا. (صحّح لي طلال سلمان في لقاء ثمن الجريدة، لأنه كان في ذاكرتي غير ذلك).
لماذا صحيفتان؟
«السفير» لأنّها تعبّر عن ذاتي، أما «النهار» فكانت الصوت الآخر، الوسطي تقريبًا. ولشعوري بأن «السفير» كانت تحذوها القُذّة بالقُذّة، حتى تقدّمت عليها. وإذا كان غسان تويني قد تقلّد مناصب رسمية، فإن طلال سلمان كان يقود بكلماته من يظن القادة سوْسَهم بسلطاتهم.
تعرفت على طلال سلمان من قراءتي اليومية لـ«السفير»، ولم تغادر صورة الأستاذ بالي، حتى عندما جمعتنا لقاءات العمل والتشاور. وظللت أراه أستاذًا إلى حدّ أنّي كنت لا أكثر لقاءاتي معه هيبة. ولمّا عاتبني على إقلالي في التواصل معه صارحته بالسبب، فقال لي دعك من ذلك.
أظنّ في عام 1985، في قاعة الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين، الذي كنت واحداً من أعضائه، نُظّم لقاء سياسي، وألقى الأخ العزيز محمد رعد محاضرة تبعها حوار. بعد اللقاء، سألني الحاج: أين أنت؟ فأبلغته بمكان عملي. قال: أريدك معي في جريدة «العهد». واستتبع هذا العرض، أن قدمت استقالتي النارية من عملي في هيئة دراسات خاصة، بسبب غضبي من وقوع مجزرة بئر العبد، وتقديري بأننا قصّرنا في بذل الجهد الكافي للحؤول دونها.
بدأت عملي في «العهد» مديراً للتحرير. وذات يوم، قرأت مقالة نقدية لطلال سلمان بعنوان «الموت للعروبة، نعم للإسلام»، وقد ندّد فيها بهذا الشعار ومن يحمله، وهو نقد فيه غمز من قناتنا كمقاومة لها هويتها الفكرية والإيمانية التي تتجاوز الانتماء القومي وتعلي الرابطة الإيمانية عليه.
كتبت ردًا عليه وبعثت به إليه. لم تنشره «السفير» يومها، فاضطررت إلى نشره في «العهد». لكنني فوجئت، بأن عادت «السفير» ونشرته نصًا كاملًا، موضحة أنها لم تنشره ابتداءً، لأنه لم يصلها، وليس لسبب آخر، حيث كنا قد اعتقدنا نحن، أنها لم تنشر، تفاديًا للسجال، أو أبت عرض الردّ عليها.
هذه الواقعة، شكّلت أول معرفة عملية، لا شخصية لي بطلال سلمان. لاحقًا، عندما ارتكب المجرم غازي كنعان مجزرته ضد شبابنا العزّل من أيّ سلاح في منطقة فتح الله عام 1987، نشرت «السفير» تقريراً عمّا حصل وعنونته بأن «ما حصل قد حصل». لأعلم، لاحقاً، بأن الطاغية نفسه فرض هذه الوجهة في «السفير» من خلال الضغط على مكتب طلال سلمان، وأنه هو من كان يوجّه الآراء وقتها نحو هذه المجزرة… ومرة أخرى كنت مضطرًا إلى كتابة ردّ في مقالة في جريدة «العهد» لإظهار الحقائق التي حاول الجزّار تزييفها، ولإشفاء صدور لا تزال مشتعلة بالغضب منه وسجدت شكرًا لله حين قتل نفسه، والحمد لله.
كان طلال، بحقّ، ابن البقاع، أبيًا ساميًا صلبًا شجاعًا، سيفًا لا يُلوى.
وظلت «سفيره» إلى حين غيابها منصّتنا التي منها كانت توازي المواقف السياسية ميدان القتال.
طلال كان الاسم والرمز لمجموعة من الأصدقاء الصحافيين الكتّاب في «السفير» الذين مشينا وإيّاهم في دروب المقاومة السياسية والإعلامية.
مضى طلال سلمان. لكن إرثه يجب أن يحفظ. لقد كانت كتاباته، كما جريدته «السفير»، مدرستنا في التأطير السياسي.
منه تعلّمنا ومعه كبرنا، ونحن مدينون بما نحن عليه لقلمه وجسارته.
رحمة الله عليك أيها العزيز.
جريدة الاخبار