اختار “أبو أحمد” أن تُزيّن مدخل بناية جريدة “السفير” في شارع منيمنة في الحمراء (رأس بيروت) خريطة نحاسية للوطن العربي. لم يختر أعمالاً لفنانين تشكيليين لبنانيين وعرب كبار شاركوا في صياغة مسيرة “السفير” وما أكثرها في مكاتب الجريدة وطوابقها وأروقتها. كانت الخريطة ـ وما زالت على الأرجح ـ معلقة ضمن كادر خشبي على حائط خلف فريق الإستعلامات والإستقبال. سألت الأستاذ طلال يوماً أن هناك دولة عربية غير موجودة في الخريطة فهل السبب هو صغر مساحتها؟ غرق في الضحك متذكراً كيف صنعت هذه الخريطة أزمة دبلوماسية عند زيارة أحد سفراء إيران في لبنان لجريدة “السفير”. فقد أبدى السفير الإيراني اعتراضه على ضم هذه الخريطة إقليم الأحواز إلى العراق، رافضا دخول مبنى الجريدة من دون تغييرها.. ولم تتغير!
هكذا كانت جريدة “السفير” تواجه التحديات وتستجيب لها. من موقعها في مدينة بيروت إلى خريطة العالم العربي في مدخلها إلى أحرف صفحاتها، من المهد وحتى اللحد هي في تكوينها فكرة قائمة على التحدي.. والاستاذ طلال أدارها كقبطان سفينة في بحر شرق أوسطي هائج لا يهدأ.
***
تعرفت على الأستاذ طلال من خارج “السفير”. و”السفير” هي النادي الكبير الذي انتمت إليه مجموعة عريضة من الصحافيين والكتاب والأدباء. ما زلت أتذكر حسرته عندما تناولت كتابات صحافي ما يُصنّف مُفكراً كبيراً اليوم في الخليج العربي. أشار إلى أن هذا “الكبير” نفسيته صغيرة جداً، ليُكمل أن للقلم شخصية لا بد وأن تنكشف يوماً ما. فعلاً؛ انكشف “الصحافي الكبير”.. وأصبح بحجم نفسيته الصغيرة جداً.
***
منذ لقائي الأول بالأستاذ طلال أخذني بعطف أبوي كبير. أتذكر كيف كان يصافحني قابضاً بيده اليمنى السمراء على يدي اليمني ويشد بيده على ساعدي الأيسر بينما عينه تتسع وتكبر مع اتساع ابتسامته. تعمد أن يُمازحني بصوت عالٍ حتى يسمعه الحاضرون “هذا صديقي السعودي”. لقاءات عدة توالت في بيروت والقاهرة. وفي كل جلسة كان يُردّد مقولته هذه. لتتسع ابتسامته مع لمعان عينيه في كل مرة. يحب “أبو أحمد” النكتة الذكية. ولأنه يمتلك حساً فكاهياً أعتقد أنه كان يحب إظهار الصورة السلبية المتداولة عن علاقة “السفير” بعالم القناصل والسفراء!
***
في بلد الإستقطاب الطائفي والسياسي بامتياز، لم تنجُ “السفير” من نمطية المواقف المُسبقة المُضلّلة. لكن الأستاذ طلال كان يعرف ذلك جيداً. وقد وظّف هذه النمطية في صياغة معادلة تفصل بينه وبين الجريدة. من ضمنها العلاقة مع السعودية. ومن يعرف “أبو أحمد” جيداً يدرك مقدرته البارعة في ادارة العلاقات المركبة والمعقدة سواء داخل المؤسسة نفسها التي يُديرها أو أنماط علاقاتها الخارجية..
***
وبحكم أن العلاقة بين السعودية وجريدة “السفير” ظلّت أسيرة المحاور الاقليمية المتقلبة في لبنان والعالم العربي، ثمة صورة ارتسمت في أذهان الناس أن هذه العلاقة تنسحب على ناشر “السفير” ورئيس تحريرها الاستاذ طلال سلمان. فلطالما كانت العلاقة بين الاستاذ طلال والمملكة العربية السعودية سراً من “أسرار الآلهة”، حتى جاء اليوم الذي باح فيه “أبو أحمد” ببعض خبايا هذه العلاقة. كان ذلك في العام ٢٠١٨ بعد اقفال الجريدة. صعدت الى الطابق السادس حيث استمر صالون الأستاذ طلال في الانعقاد أسبوعياً. بادرته سائلاً عن علاقته بالسعودية، وسألته مستفسراً كيف لرئيس تحرير صحيفة عربية عاصرت أحداثاً اقليمية وعالمية كبيرة أن تكون هناك علاقة رجراجة بينها وبين السعودية؟
ابتسم طلال سلمان كعادته واستل الكلام بكل هدوء ومن دون أدنى انفعال. بدأ حديثه من باب نشأة الصحافة اللبنانية، وكيف أن السياسة في لبنان لها الأثر الكبير على شؤون الحياة وعلى رأسها الصحافة، قائلاً إن الرئيس المصري جمال عبد الناصر هو من أسّس معظم الصحف اللبنانية، مُعدّداً منها “الكفاح العربي” و”الأنوار” و”المحرر” و”الأسبوع العربي”، مُذكراً أنه كانت هناك طائرة مصرية تقلع ظهر كل يوم محملة بالصحف اللبنانية إلى القاهرة، ليستدرك كأنه يسترجع معلومة ما. ساد صمت لثوان.
أردت مقاطعته بالرجوع إلى إشكالية علاقته بالسعودية، غير أن سرعة بديهة الأستاذ طلال كشفت مخططي فانتقل بسلاسة الى صلب الحديث. إلى العام ١٩٧٥. الى يوم العزاء بالملك السعودي فيصل بن عبد العزيز الذي اغتيل في مكتبه. كانت جريدة “السفير” قد ولدت قبلها بأشهر. ناهيك عن اشتعال صراعات عربية ـ عربية أخذت تنعكس سلباً على لبنان. ذهبت مع وفد من نقابة الصحافة اللبنانية إلى الرياض. وجدت نفسي ـ والكلام للأستاذ طلال ـ جالسا في مجلس العزاء بين الملك سلمان بن عبد العزيز (أمير الرياض حينها) والأمير طلال بن عبد العزيز. ثم دخل الاستاذ غسان تويني واقفا امامهم مستنفرا، وهو يقول لأبناء الملك عبد العزيز “أنتم لا تحبون إلا من يذكركم بسوء” في إشارة الى الصورة النمطية لجريدة “السفير”. جاء الجواب من الأمير سلمان مباشرة مشيراً بسبابته إلى طلال سلمان قائلاً “هذا طلال” ثم أشار إلى نفسه “وهذا أنا سلمان”.
قرّرت وزارة الإعلام السعودية دعوة رئيس تحرير “السفير” لزيارة المملكة غداة أحداث الحرم المكي في العام ١٩٧٩ أو ما تعرف بـ”أحداث جهيمان”. يومها التقى طلال سلمان مجموعة من الأمراء والمسؤولين السعوديين. قابل ولي العهد آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز. امتد لقاءهما لأكثر من أربع ساعات، واصفاً الملك فهد بأنه كان “سريع البديهة”، وأن المستمع إليه عليه الإنصات بعمق. ثم أشار الملك فهد حين انتهاء الحوار بأنه يريد تقديم هدية له. فبادر الأستاذ طلال مجيباً بأنه يريد عباءة الأمير (البشت). خلعها الأمير فهد فوراً وقدّمها هدية لرئيس تحرير “السفير”. ثوان معدودة قام بعدها طلال بإرجاعها إلى الأمير شاكراً له رمزية الهدية والعباءة.
في تلك الزيارة ذاتها، زار طلال سلمان الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض حينها. يتذكر “أبو احمد” أن اللقاء الذي جرى في الرياض كان يتميّز بتلك البساتين وأشجار النخيل التي أحاطت بهم من كل ناحية. في خضم الحوار استفاض الأمير سلمان قائلاً “يا طلال نحن عرب. نحن أبناء هذه الأرض وهذه الصحراء وهذا النخيل. نحن آل سعود لسنا مثل الملك فاروق ولسنا من الألبان (ألبانيا)”. فهم الأستاذ طلال مغزى كلام الأمير سلمان بأن العلاقة بين الرياض والعروبة لا تحتكرها قضية أو زعامة أو حتى صحيفة. هي علاقة تجذر وانتماء.
***
لم تقتصر علاقة الأستاذ طلال على أحد بعينه في الرياض. بل كان له فيها أصدقاء بعدد الأخصام. وعلى سيرة احتكار العلاقات كان يحلو للرئيس الشهيد رفيق الحريري تضخيم تمثيله المملكة في لبنان وتوظيفها في عمله السياسي. لم يكن ذلك خافيا على “أبو أحمد”. بل نسج علاقة مركبة مع الرياض والحريري الأب. حيث لا يمكن الحديث عن علاقة الاستاذ طلال بالرياض من دون الحديث عن علاقته بالرئيس رفيق الحريري. فكلا الرجلين جاءا من خارج البرجوازية البيروتية التي كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس. الاول من البقاع والثاني من عاصمة الجنوب. جمعهما طموح جارف لترك بصمتهما في تاريخ بيروت ولبنان، وهما بالفعل تركا تلك البصمة، بدليل الفراغ الذي تركه الرجلان في عاصمة السياسة والصحافة والثقافة والأدب.
***
دفع الأستاذ طلال ثمن مواقف “السفير” مراراً. تعرضت الجريدة للترهيب والترغيب أكثر من مرة وبينها عبوة ناسفة في العام ١٩٨٠ إستهدفت مطبعتها ونجا منها صاحب محل خياطة من جيران “السفير”. ذهب الجار الأرمني إلى طلال سلمان شاكياً “انت استاذ بتكتب وفي حدا بيقرا وما بيعجبو. يلي ما بيعجبو بدو يقتلك. بيحط عبوة. أنت ما بيصيرلك شي وأنا خرب بيتو ومحلو وكنت رح موت. شوف استاذ أنا قررت اترك البلد إلك وإلو”.. لم تثنِ النمطية ولا العبوات “السفير” يوماً من استمرار الصدور. ولم يتوقف الأستاذ طلال في إدارة التحديات المتتالية. لكن قرار إقفال الجريدة في مطلع العام 2017 كان ويظل غير مفهوماً لكثيرين من قراء “السفير” في لبنان والعالم العربي إلى يومنا هذا.
في هذا السياق، أستعير بيت شعر من قصيدة الشاعر السعودي غازي القصيبي الذي قال “تأبى الرجولة ان تدنس سيفها”. قاوم الاستاذ طلال محاولات عدة لتدنيس جريدة “السفير”. مرة بالرصاص في محاولة اغتيال فاشلة. ومرة بسلاح المال حين قلت الحيلة. ومرة بالتكنولوجيا حين أدخل الحاسوب في عالم الصحافة اللبنانية. وآخرها الضربة القاضية عندما رحل رجال السياسة و”بقي صبية يديرون البلد”، على حد وصفه.
***
في يوم إقفال “السفير” شعر محبو هذه الجريدة وكأنهم يردّدون قول الشاعر المصري علي محمود طه الذي قال “أنا من ضيّع في الأوهام عمره”. أقول للذين قرأوا الفاتحة على “السفير” أن الأستاذ طلال سلمان لم يكن واهماً حين أطلق جريدة “السفير”. لكنه كان حالماً حين صرف عمره كله في مهنة الصحافة، ليكتشف متأخراً أنه أضاع الكثير منه في بلاط صاحبة الجلالة.
***
يظل قرار إقفال جريدة “السفير” علامة فارقة في مسيرة الأستاذ طلال سلمان. لا أدعي معرفة السبب الحقيقي لكن ما أدعي معرفته بشهادة الكثيرين أن جريدة “السفير” أنقذت شباباً لبنانياً من الانخراط في الحرب الأهلية المدمرة. ففتحت لهم صفحاتها وقدمت لهم سلاح القلم. يكفي أن هناك من صنع أرشيفاً لتاريخ لبنان الذي ما يزال مختلفاً عليه. رحم الله الأستاذ طلال. وأتمنى على عائلته أن يتحول أرشيف “السفير” إلى مؤسسة وطنية، يستطيع الجيل الجديد أن يستقي تاريخه منها من دون كبير عناء وتدقيق.
***
في الختام، أقول إن بيروت قبل رحيل طلال سلمان شيء وبعده شيء آخر. للأسف تضيق الهوامش وينسحب “نسمة” باحثاً عن سيرة جديدة غير سيرة الحب. الحب الفيّاض لبيروت.. عاصمة العواصم.
نشرت في موقع 180 بوست