طلال سلمان

سفير الموت الإسرائيلي

نفترض أن رئيس الجمهورية مطالَب بموقف واضح وصريح مما قاله على بابه، أمس، السفير الأميركي في بيروت، ريتشارد جونز.
ونفترض أن الحكومة بشخص رئيسها رفيق الحريري، ثم بشخص وزير خارجيتها فارس بويز، مطالَبة بإجراء عملي ازاء هذا السفير الذي تجاوز الأصول الدبلوماسية، وارتكب خطأً سياسياً قاتلاً استفز به، ليس فقط مشاعر اللبنانيين، بل هو تجرأ على وطنيتهم ذاتها معلناً انحيازه إلى »العدو« الذي ما زال يحتل أرضهم، والذي كان جنوده الذين تفجَّروا بذخائرهم في الجو، ليل أمس الأول، في طريقهم إليه ليقتلوا وينسفوا ويدمروا مَن وما يرونه »هدفاً« أو »أهدافاً« لحربهم ضده.
لقد تخطى السفير ريتشارد جونز حدود موقعه وأصول العلاقات بين الدول، في حال الصداقة كما في حال الجفاء، وأظهر استهانة غير مقبولة بكرامة اللبنانيين، بل بسلامتهم داخل أرضهم، واتخذ موقفاً منحازاً إلى العدوان الإسرائيلي الذي لم يمنعه إلا القدر، مقرِّراً »حق« إسرائيل في احتلال الأرض اللبنانية ومقاتلة (بل قتل) أهلها فيها!
ومن قبلُ، كان سبق لهذا السفير المعتَد بنفسه أكثر مما يجب، والذي عومل ربما بأكرم مما يجوز، أن اتخذ مواقف غير ودية، وأطلق تصريحات غير مسؤولة، وتدخل في ما لا يسمح له القانون أو العرف بالتدخل فيه، وتصرف فعلاً كمندوب سامٍ له حق القرار، وإليه ترجع الأمور.
قال كلاماً وكأنه يرسم السياسة في لبنان بدلاً من رؤسائه،
وأعطى نفسه حق التصرف وكأنه في بيته وهو يزور هذا أو ذاك من كبار المسؤولين، أو يصرّح على بابه بما لا يجوز له أن يبدي فيه رأياً.
لكن تلك كانت »هنات هينات« قياساً إلى ما صدر عن ريتشارد جونز اثر خروجه من لدى رئيس الجمهورية، أمس، وعلى باب القصر الجمهوري تحديداً!
لقد ألقى جونز درساً على اللبنانيين في أصول التصرف مع مآسي الآخرين واحزانهم، متناسيا ان »الضحايا« الذين تطوع للتعزية بهم، عبر اجهزة الاعلام اللبنانية، رسمية وغير رسمية، انما كانوا جنودا محمولين الى لبنان لينفذوا فيه عمليات حربية ضد اهله، في أرواحهم وممتلكاتهم.
لم يكن أولئك الجنود الذين اودى بهم تفجر الذخائر في المروحيتين المرسلَتين بمهمة الموت الى لبنان، نساء وأطفالا وشيوخا قضوا في فيضان او اعصار او عاصفة ثلجية، او حتى في عملية نفذها انتحاريون ضد اهداف مدنية.
ولم تكن وجهتهم سرية، بل كان اللبنانيون هم الهدف المعلَن.
ولم يكونوا يتحركون فوق »ارضهم«، بل كانوا آتين لتعزيز الاستمرار في احتلال الأرض اللبنانية.
فهل يلام اللبنانيون اذا عبّروا عن فرحهم بالنجاة من عملية اغتيال واسعة النطاق خططت لها القيادة الاسرائيلية بدماء باردة، وأوفدت جنودها لتنفيذها ضد الفلاحين الفقراء، ربما وهم يتسحرون، او ربما وهم يفطرون، او ربما وهم يؤدون صلاة العيد؟!
لقد ابتهج اللبنانيون بأن الرصاص الاسرائيلي قد أخطأهم هذه المرة فارتد الى مصدره.
ولعلهم أملوا ان ينتبه الاسرائيليون الى الكلفة الباهظة التي يدفعونها لادامة احتلالهم للأرض اللبنانية فيقرون الجلاء عنها، لحفظ ارواح جنودهم، إن لم يكن تطبيقا للقرارات الدولية، وأبرزها القرار 425.
كان المشهد مثيرا، لكنه في الوقت نفسه دليل إدانة: لقد تفجر السبعون واكثر من جنود »النخبة« في اسرائيل فتناثروا اشلاء فوق الجليل بفلسطين، قبيل لحظات من وصولهم لنسف او اغتيال او تدمير »هدفهم« او »اهدافهم« داخل لبنان، والتي لن تكون فقط »عسكرية«… علما بأن »عسكريتها« لا تجيز لاسرائيل أن تضربها، ما دام انها داخل الأرض اللبنانية.
ولو أن ريتشارد جونز كان ما زال في مسقط رأسه في شريغبورت بولاية لويزيانا الأميركية، او في ولاية نيبراسكا حيث ينتخب، لما كان لأحد في لبنان او خارجه ان يعترض على مواقفه او آرائه او عواطفه، او يأخذ عليه انحيازه لاسرائيل، حتى لو بلغ به الأمر حد الذهاب إليها لتأدية »خدمة العلم« فيها.
أما وان ريتشارد جونز يمثل حكومة الولايات المتحدة الاميركية لدى لبنان، فإن أبسط شروط عمله ان يحترم البلد الذي قبله وأكرم وفادته، وتغاضى عن تجاوزاته »الهينات«، وفتح له أبواب مسؤوليه الكبار آناء الليل وأطراف النهار، وان يُظهر تفهمه للموقف السياسي الرسمي (حتى ولو لم يعجبه)… والأهم: ان يُظهر تقديره للشعب الذي رحب به وعامله وفق أصول الضيافة، مضيفا إليها شيئا من الود والاعتراف بخطورة الدور الأميركي في هذه المنطقة خاصة، وفي العالم كله بشكل عام.
لقد تجاوز هذا الدبلوماسي العريق (20 سنة) كل الأصول التي يدرسونها في المعاهد وقبلها في البيوت، ثم في وزارة الخارجية، نفسها.
لعله قد نسي موقعه ومهمته فتصرف بما يؤهله لجائزة أخرى ينالها من وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، إضافة الى التي نالها سابقا،
او لعله يطلب جائزة جديدة كتلك المكافأة التي حصل عليها لأدائه المتميز في حرب الخليج (كما يقول سجله الشخصي).
المهم ان هذا الرجل قد يفيد بلاده اكثر لو كان سفيراً لها في اسرائيل.
لكنه بالقطع لن يفيدها في لبنان، الذي وجّه اليه أمس، ومن على باب القصر الجمهوري، إهانة لا يسكت عليها أضعف خلق الله، فكيف بهذا البلد المحصَّن الآن »بأصدقاء لبنان في واشنطن«، الذين نرجو ألاّ يكون ريتشارد جونز عنواناً لهم!

Exit mobile version