طلال سلمان

سائرون نياما نحو فتنة

من لبنان إلى فلسطين وانتهاءً بالعراق يتبدى المشهد خرافياً: لكأن الناس ليسوا الناس إذ انقلب الأخوة إلى خصوم بل إلى أعداء يهدد الكل الكل، وقد تناسوا أو غفلوا أو أعماهم الغرض أو التعصب عن حقائقهم الأصلية فاندفعوا وراء أوهامهم إلى حد المخاطرة بتدمير أوطانهم ومستقبلهم فيها.
كيفما التفت ترى طوابير من البشر، الذين كانوا وما زالوا وسيبقون أشقاء، يمشون إلى الفتنة بعيون مفتوحة على الفراغ… لكأنهم منوّمون أو تحت تأثير مخدر قوي، وقد أسقطوا رايات نضالهم الطويل والمكلف من أجل غدهم الأفضل في بلادهم (التحرر والديموقراطية والعدالة) وافترقوا عن تاريخهم وحقيقة وحدتهم فبات شعار كل طرف أنا… أو الطوفان)!
… ولولا شيء من التحفظ لأمكن القول إن الخطة الأميركية الهادفة إلى اعتماد الفوضى الخلاقة لاستيلاد شرق أوسط جديد تمضي نحو هدفها بأسرع مما توقع واضعوها، وبكلفة يدفعها ضحاياها من دمائهم ومن حقهم في غد أفضل لهم فوق أرضهم!
لقد غادر الخطاب السياسي، للأطراف المختلفين، لغة العقل، وسادته نبرة الانتقام وغريزة الثأر، والعدائية التي كانت مكرّسة جميعاً للاحتلال الأجنبي (إسرائيلياً كان أو أميركياً أو بريطانياً إلخ)… بل لقد تعززت لدى بعض هذه الأطراف الجرأة لتوصيف الأجنبي بأنه صديق بل و حليف ضد الأخ الشقيق، والمجاهرة بالتحالف معه ولو على حساب استقلال الوطن وحرية شعبه.
… وها هي الأزمة التي بدأت سياسية في لبنان تنحرف عن مسارها الأصلي، ويشتبك الأطراف الذين كانوا حتى الأمس حلفاء، ويجد الأصدقاء الأجانب مساحة مفتوحة للتدخل بذريعة أنهم يدعمون هذا المشروع السياسي أو ذاك، في ظل شعارات السيادة والحرية والاستقلال..
أما في فلسطين فإن دماء الأخوة في الوطن وفي النضال من أجل تحريره ، لم تعد خطاً أحمر ، وتهاوت أو تكاد أسطورة أن سلاح التحرير لا يستخدم في الخلافات الداخلية، وتمّ تناسي العدو الوطني والقومي تماماً، والانصراف عنه إلى تصفية مسألة لمن السلطة في ظله، بينما دباباته وطائراته وجنوده يتابعون محاصرة المدن والبلدات والقرى لاصطياد قادة العمل من أجل التحرير، وتصفيتهم، مما يوفر للمراقب قائمتين للشهداء: في الأولى قافلة من المناضلين الذين نذروا أعمارهم لتحقيق الحلم في دولة على بعض أرض الوطن، والثانية قافلة من شهداء الغلط في الصراع على السلطة ، وهو صراع يوفر للعدو فرصة تاريخية لكي يظهر وكأنه مانع الحرب الأهلية بين الفلسطينيين الذين تتهاوى جدارتهم بوطنهم، ويخسرون بعض رصيدهم العظيم كشعب مناضل يتمتع بوعي باهر وبإيمان راسخ بقضيته العادلة، وبفهم عميق لطبيعة عدوه، وللظروف المحيطة.
وأما في العراق فإن تراكم الأخطاء بل الخطايا السياسية التي يرتكبها من يقدَّمون كحكام، وهم في الحقيقة لا يملكون من أمر الحكم شيئاً، تكاد تجعل الاحتلال ضرورة لاستمرار العراق كياناً موحداً… بل إن ثأريتهم وعماهم السياسي وقصر نظرهم تكاد تغطي على الجرائم اليومية التي ارتكبها ويرتكبها المحتل، ما ظهر منها وهو خطير وما خفي وهو أعظم إذ أنه يؤسس لفتنة لا تبقي ولا تذر، ليس في العراق وحدها، بل في كل الأرض المحيطة بالعراق… وهي هي الفتنة التي كان العراقيون بالذات، ومعهم سائر العرب، كانوا قد تخطوها فعلاً عندما وعوا الحقيقة السياسية للخلافات التي أعطيت طابع الصراع داخل الدين وعليه.
? ? ?
كانت فلسطين بين عناصر توحّد العرب في التوجه نحو غدهم: فهي كانت تختزل معظم رايات نضالهم من أجل الغد الأفضل. تحريرها يعني تحررهم من الاستعمار، والتحرر سيمدهم بالزخم من أجل الوحدة.
اليوم تواضع الحلم فصار يمكن تلخيصه باستمرار غزة موحدة، والضفة الغربية موحدة، أما فلسطين فقد عادت إلى مهجع الحلم، مع الشعارات العظمى التي ارتفعت مع امتشاق السلاح للتحرير.
أما لبنانياً فإن الحلم تقزم إلى حد المطالبة بمشاركة الجميع في حكومة واحدة، لها مواقف موحدة من مختلف المسائل التي تبرّر الآن الخلافات التي كانت في الأصل سياسية، ثم تجاوزت السياسة لتقسم الشركاء في الحلم إلى شارع مقابل شارع … بينما إسرائيل تستدرك الأخطاء التي أدت إلى عجزها عن كسب الحرب التي شنتها على لبنان قبل خمسة شهور فقط… والشهر دهر إذا ما احتسب بمخاطر الفتنة التي تتهدد هذا الوطن الصغير المستعصي على التقسيم!

Exit mobile version