للبنان ميزات كثيرة أخطرها انه »غير شكل« عن الدول جميعù،
فنظامه جمهوري ديموقراطي برلماني، لكن التطبيق الفعلي يجعله صيغة تلفيقية لتوازن طائفي مزعوم يلغي الديموقراطية والبرلمانية ويحيل الجمهورية الى طرفة سياسية!
والطوائف في النظام اللبناني الفريد أشبه بالقوميات او بالاعراق، ولذا يتخذ الحكم شكل التحالف الاضطراري بين عناصر مختلفة ولكن لا مفر لها من »التعايش«!
باسم هذه »التعددية« ذات الابعاد القومية والعرقية(!!) يتم الاضعاف المنهجي للدولة والتغييب الدائم للمواطن، حتى لتبدو »الوحدة الوطنية« وكأنها عارض طارئ مهدد بالانفراط في اية لحظة تحت ضغط زعامات الاقطاع السياسي القديم التي اخلت الساحة الان لزعامات الاقطاع الطائفي والمذهبي المعمدة بدم انصارها المخلصين!
اذن ثمة تحت عباءة الدولة »دول«. وخلف المؤسسة الرسمية مرجعية طائفية ذات سمة شعبية تعطلها او تلغيها، ووراء كل »رئيس« رئيس آخر، قد يكون أشد نفوذù أو أشد فعالية لانه يملك حق النقض »الفيتو«: ان خالفت فتواه فهي الحرب الاهلية، وان انت قبلتها اندثرت الدولة تمامù!
من محاسن الصدف ان يتزامن الفتح المبكر والمفتعل لمعركة الرئاسة في لبنان مع الموعد الطبيعي للانتخابات الرئاسية في فرنسا،
ومن مساوئ الصدف ان تنشأ المقارنات بين »المعركتين«، وسنكتفي هنا بملاحظات سريعة حول جانب محدد منها بالذات، هو ذاك المتصل بموقع الدولة في برامج المرشحين وفي مسلكهم وفي خطابهم السياسي:
لم نسمع ولم نقرأ كلمة واحدة لكاردينال باريس مثلا، أو لاسقف ليون، أو لمجمع المطارنة والاساقفة في فرنسا، حول الانتخابات والمرشحين، بالرغم من ان بينهم من يجهر بالحاده، ثم انهم جميعù لا يعترفون ولا يقرون ولا يقبلون باي دور لرجال الدين عمومù في معركتهم السياسية.
لم تعرض الاسماء أو البرامج على الاساقفة الكبار في »البنت البكر للكاثوليكية« ولا هم توهموا ان لهم مثل هذا الحق فاشترطوا الاستئناس بآرائهم والتشاور معهم.
بتداعي الافكار يمكن ان نستذكر وقائع مشابهة:
لم يحدث يومù ان سمعنا أو قرأنا كلمة لمرجع ديني في الولايات المتحدة الاميركية حول الانتخابات الرئاسية واشخاص المرشحين.
حتى عندما فاز »كاثوليكي« برئاسة الدولة ذات الغالبية البروتستانتية لم نسمع اعتراضù مذهبيù أو ذا طابع طائفي، وان ظل النقاش سياسيù وحول برنامج الرئيس وشخصيته، ولم يكن للاساقفة صوت، مجرد صوت، داخل ذلك النقاش.
بالمقابل فلم نسمع يومù في مصر، مثلا، أيام الملكية أو بعد الثورة والجمهورية، رأيù لمفتي الديار المصرية او لشيخ الازهر في امور الانتخابات عمومù،
كذلك في سوريا، بمختلف عهودها، والعراق وتونس والسودان والجزائر (ما قبل الحرب الاهلية) وليبيا وصولا الى اليمن الجمهوري: لم يكن لأي رجل دين لاية طائفة انتمى رأي في الانتخابات، على اي درجة، أو البرامج السياسية للحكم عمومù،
وبرغم اختلاف اسباب الغياب الفعلي لرجال الدين عن دائرة التأثير في الحياة السياسية بين الدول ذات الأكثريات المسيحية والدول ذات الاكثريات الاسلامية، فان النتيجة واحدة وهي ان المراجع الروحية بلا دور في الحياة السياسية خصوصù وان النظام القائم هو الذي يكفل الحريات الدينية وممارسة الشعائر ويحقق بذاته وعبر دولته التوازن الوطني.
هل العيب، لبنانيù، في النص على طائفية الرؤساء والوزراء والنواب؟!
وهل يحتاج أي مواطن لتوكيد انتسابه بالوراثة الى هذه الطائفة او تلك، هذا المذهب أو ذاك، شهادة تماثل صك الغفران الشهير أو مفتاح الجنة الذي كان يوزع على المؤمنين الاغرار؟!
ألم يكن الافتراض ان النص الذي يشكل نقضù لطبيعة النظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني قد اعتمد فقط من أجل طمأنة الخائفين وتهدئة روع القلقين، وبالتالي تحريرهم من هيمنة رجال الدين عليهم وتمكينهم من ممارسة العمل العام بمنطق يصون الوحدة الوطنية ولا يهددها؟!
في ضوء الواقع يتحول النص على طائفية الرئاسات فخا للدولة والمواطن، اذ يجعل لها وله رئيسا ثانيا فوق كل رئيس، وفوق كل وزير، وفوق كل نائب، وفوق كل موظف من اعلى السلم وحتى الحجاب وهم اخطر ضمانة لعدالة التوزيع الطائفي وانصاف المحرومين!
في ضوء هذه المعطيات جميعù نكتشف كلما »داهمتنا« انتخابات، على اي مستوى، ان ليس لدينا جمهورية… مهما تزايد عدد الرؤساء وتعددت صيغة الشراكة باسم التحالف أو الاختلاف الشكلي من أجل تعميق »الاخوة« بينهم!