رأيت الصين في غمرة انبهاري بأميركا. رأيتها شاباً، ليس تماماً غراً. تخرّج من جامعة لم تعرف عن علوم السياسة إلا ما خطتّه ونظمتّه مناهج التعليم في أميركا. قضى بعض عصاري مراهقته وأكثر أمسياتها متنقلاً بين دور سينما تعرض في روعة وإبهار ملاحم انتصارات أميركا في معارك الحرب العالمية الثانية وروايات تلهب الخيال تصور نماذج وأساليب حياة في عالم مختلف. الغريب أن هذا التلقين نفسه، إلى جانب التدريب في مؤسسات إعلامية أميركية خلال آخر سنوات الدراسة وشغف الاطلاع على شذرات من حرب الاستقلال وإبداعات الآباء المؤسسين، كان عاملاً حيوياً في تشكيل عقل سياسي نقدي ساهم ولا شك في رسم مستقبل متفرد بعض الشيء ومواقف أزعجت بقدر ما كانت تعبر هي نفسها عن انزعاج.
***
دخلت الصين لأول مرة من بوابة مدينة كانتون، عاصمة الجنوب في ذلك الوقت والميناء الرئيس على نهر اللؤلؤ، المجرى المائي الذي لا ينام ولا يسمح بالنوم لمن ساقته الظروف ليقيم على إحدى ضفتيه. لم تصبني كانتون بالصدمة التي أصابت بها أغراباً كثيرين أتوا من الغرب. وصلت كانتون عن طريق البر حاملاً سلّة لا يحملها عادة الزائر الغربي. سلتي احتوت على طموحات شاب من جنوب العالم، هي نفسها ثمرة مجموعة من التمردات، إن صح التعبير. تمرّد على أحوالنا التي ورثناها في معظم دول الشرق الأوسط نتيجة تطبيق صيغ حكم متردد وفي الغالب تابع. أذكر الآن أنني في نقاش دار في أواخر عقد الخمسينيات في معهد للعلاقات الدولية بالهند مع باحثين من دول حديثة الاستقلال حذّرتُ من الاستغراق في تنفيذ مهمة إعادة بناء الدولة. حجتي كانت أنه ليس من الضروري أن نهدم المؤسسات القائمة مع كل تغيير في أشخاص أو أشكال الحكم بذريعة أنها توقفت عن التطور حتى بدت متخلفة بالمقارنة بمثيلاتها في دول الغرب. الهدم العشوائي، كان في رأيي، إصراراً غير متعمد على تعميق التخلف وفي أحسن الأحوال تعطيلاً لمسارات التحديث والتقدّم.
***
قضيت في الصين في أواخر الخمسينيات عاماً إلا أيام. كانت هوايتنا، أنا وزميلي في السفارة، خلال معظم أيام هذا العام متابعة العمل عن بعد في أفران صهر الحديد. أفران منصوبة على امتداد البصر في أحواش المدارس ومواقع انتظار السيارات في المصانع والشركات ومؤسسات الدولة والبلدية. أمامنا وحتى الأفق يحتشد دخان الفحم المحترق مختلطاً بدخان المنصهر من معادن شتى يلقيها في الأفران المواطنون المتحمسون، هؤلاء تلاحقهم الميكروفونات داخل مكاتب وصالات العمل “أن اجمعوا الأدوات المعدنية المستهلكة واذهبوا مع أطفالكم إلى أقرب فرن صهر لصهرها، هكذا تساهمون في اللحاق ببريطانيا العظمى على الطريق نحو التفوق عليها في إنتاج الصلب، عماد الحضارة والرقي”.
وقع في ظني خلال الزيارة الأولى للصين أن معظم الهدم كان عشوائياً ولدوافع رمزية استناداً إلى حقيقتين مغروستين في فكر النخبة الثورية الحاكمة في ذلك الوقت، الأولى، أن فترات الهيمنة الأوروبية واليابانية بالإضافة إلى قرون قمع وصراعات أمراء الإقطاع والحرب خلفت في الصين مجتمعاً فاقد الروح. الثانية، أن النهضة عموماً لا تتحقق إلا بالتصنيع، تصنيع الاقتصاد والعقول والعلاقات داخل المجتمع. وبالفعل جربوا نشر الوعي الجديد بإقامة الأفران البدائية، جربوا أيضاً تنظيم الكوميونات في الأرياف ثم المدن.. هذه التجارب بدت لنا وقتها وبالحساب البسيط فاشلة، فالمؤكد أنها كانت باهظة الكلفة في البشر والموارد. لم أقتنع بعديد الحجج، ولكني خرجت من الصين في هذه الزيارة الأولى واثقاً من أن إنساناً جديداً يجري إعداده بمشقة رهيبة وكلفة مرتفعة وكلاهما لا يمكن توفيرهما في مجتمعات نامية أخرى.
مرت عشر سنوات أو أكثر قليلاً وعدت إلى الصين وأنا أقوى استعداداً لفهم ما يحدث فيها. خلال هذه السنوات تيقنت بالدرس المكثّف والقراءة المتعمّقة وملاحظة ظروف التطور في أميركا اللاتينية أن ما كنا شهوداً عليه قبل عشر سنوات ونحن في السفارة المصرية في بكين وما تابعته من بعيد عن تطورات الثورة في الصين وجرت تسميته مع تجاوزاته بالثورة الثقافية، تيقنت أن الصين تجاوزت المرحلة الأصعب بنجاح، وهي مرحلة بناء الإنسان المنتج. ازددت يقيناً عندما اجتمعت مرة أخرى، هذه المرة ضمن وفد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالسيد شواين لاي الرجل الثاني في الثورة الصينية. راح يؤكد يومها، وهو النموذج البراجماتي بامتياز، إن طريق الصعود أمام الصين بات مفتوحاً. أضاف بثقة متناهية “وممهداً أيضاً”.
***
بعد نصف قرن تقريباً من زيارتي الثانية للصين وقبل أيام قليلة مضت جمعني بآخرين تطبيق زووم على حوار ناقش فيه المتحاورون تطورات العلاقات بين الصين وأميركا، الماضي منها والمحتمل. خرجت وقد زاد اقتناعي بأن الجيل الذي أنتمي إليه كان ولايزال وسيبقى لعقود قادمة شاهداً على عالم يبحث عن روح. لقد ضج العالم، وبخاصة الجزء الغربي فيه، بالشكوى من العيش في مجتمعات الأفراد فيها هائمون يبحثون عن روح تجمعهم وترشدهم وقت الأزمات مثل الوقت الحالي، وقت اشتعال أزمة الكوفيد. لم تسمع البشرية حتى الآن رداً يفحم صوت جحافل الفيروس المهاجم، لا تسمع سوى اتهامات تتبادلها الحكومات فيما بينها واتهامات بين الحكومات والشعوب واتهامات وانفعالات داخل الشعب الواحد. أزمة الكوفيد ليست الوحيدة فالأزمات التي تعصف بالإنسانية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لا تحصى. إنه الفراغ في عالم نعيش فيه اليوم، عالم يتمرد بكثير من عدم الرضا وكثير من التردد. نحن شهود على تجارب عديدة يدخلها باحث عن مستقر، وأظن أنه لم يجده بعد. جرب العولمة وتركها نادماً. تنبأوا لمصيره بحروب حضارات فاشتعلت في مواقع كثيرة، وهي الآن تهدد مواقع أكثر. دفعوا به إلى أحضان ما يسمى بالليبرالية الجديدة فالتهمت جلّ طاقته وشردت الملايين بعد إفقارهم. تشوهت الرأسمالية وها هي مأزومة تحاول تكييف أوضاعها بعد التشوه ثم إنها في مجتمعاتها التقليدية فقدت جاذبيتها بل لعلها الآن، كما في أميركا وفرنسا ودول أوروبية عديدة، تكاد تعلن فشلها في تحقيق التقارب بين الأجناس التي تعيش تحت خيمتها المثقوبة في مواقع كثيرة. لا شك أن الغرب بقيادة أميركا أو بدونها يتحمل الجانب الأعظم من مسئولية هذا الفراغ. هو الغرب الذي هيمن على حياة البشر لقرون عديدة، هذه الهيمنة التي اقتربت إلى نهايتها بعد سنوات أو عقود من الانحدارات المتعاقبة في قوى الغرب المادية والمعنوية على حد سواء.
***
حسب معايير كثيرة يعتقدون في الصين أن بلادهم مدينة لما يعتقد أنها الروح التي جلبت لهم الاحترام وصنعت مكانة لهم بين الأمم. بدونها ما وصلت الصين إلى صف القمة أو هكذا يتصورون، وضعوا التفوق على بريطانيا العظمى هدفاً نصب الأعين فتفوقوا فعلاً عليها ثم على الغرب بأسره باستثناء أميركا. الروح التي نهضت بها الصين أخرجت مئات الملايين من فقراء الصين من مواقع الفقر والبطالة إلى براح الإنتاج والإنجاز، وفي الغرب يتوقعون بأنه لن يهدأ للصين بال ونأمن على سلامتها ومكانتها إلا حين تحتل هذه الروح، روح الصين، فراغ الروح في العالم الخارجي الذي تسعى لقيادته.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق