»الخبر« غير قابل للتصديق، لكن مروّجيه يحاولون فرضه على الآخرين وكأنه حقيقة غير قابلة للنقض: فهناك مَن قرأ افتتاحية »السفير« يوم العاشر من حزيران الجاري، التي كانت بعنوان »قطر والابتزاز المفتوح« على أنها تهديد لأمير قطر بالقتل!
وهكذا روَّج المروِّجون في واشنطن وفيهم نافذون في قلب الإدارة الأميركية، وهويتهم الصهيونية معروفة، هذا الاتهام النابي إلى كاتب لا يملك غير رأيه، ثم حاولوا إقناع بعض المسؤولين القطريين بجدية التهديد وخطورة »القلم« كأداة للقتل، وقتل الأصدقاء من الأشقاء على وجه التحديد!
ومن أسف فإن بعض المتورطين في الخطأ السياسي الفاضح والمتمثل في فتح أبواب الخليج العربي أمام إسرائيل، في هذه اللحظة بالذات، وبينما أقصى التطرف الحاكم فيها يغتال آخر احتمال لتسوية ما، قد ضخَّموا الكذبة التي رُوِّجت عمداً، وعمَّموها، وتذرعوا بها ليبرّروا الحرام الذي لا يبرَّر.
صارت »السفير« مصدر الخطر على قطر، وصار الاعتراض على النهج السياسي الخاطئ والخارج على مقتضيات السلامة (عدا عن العروبة) نوعاً من الإرهاب وتهديداً مباشراً للعهد الجديد فيها!
تمّ القفز من فوق خرق المحظور بالمضي قدماً على الطريق الملغوم للتطبيع، وطمس الانعكاس السيئ لهذا الاستفزاز الجديد ترتكبه قطر في وجه الأكثرية الساحقة من إخوانها العرب والمتمثل بالإصرار على عقد المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمالي أفريقيا في الدوحة في الخريف المقبل.
أُسقطت الصداقة الشخصية، وأُسقط التعاطف بل التضامن مع قطر حين كانت في موقع المعتدى عليه، ونال التشويه جملة المواقف المبدئية التي ميَّزت »السفير« والتي كانت في أساس اللقاء الأول مع الأمير عندما كان ولياً للعهد، وصرنا »مطلوبين للعدالة«، يشهّر بنا سماسرة المصالح الإسرائيلية في واشنطن ويرموننا بدائهم وينسلون فلا يحمينا ويحمي أنفسهم منهم الأخوة في الدوحة، العربية أمس واليوم وغداً وحتى ينتهي الزمان!
كل ذلك بدافع الحرص على مؤتمر اقتصادي هو أولاً وأخيراً اختراق سياسي إسرائيلي، للمنطقة العربية بكاملها، وفي لحظة حرجة جداً، ولا ينفع قطر في كثير أو قليل.
هل من الضروري التذكير بأمر أساسي وأمر فرعي:
فأما الأساسي فهو أن الدورات الثلاث لهذا المؤتمر التي عُقدت في الدار البيضاء وعمّان والقاهرة لم تحمل المليارات إلى هذه الدول العربية الثلاث، ولم تضف إلى رصيدها عالمياً، وأساءت إلى صورتها عربياً، وأضعفتها أكثر فأكثر في وجه إسرائيل المنافس (مع تناسي أسباب العداء!!).
وأما الفرعي فهو أن »السفير« قد عبَّرت عن موقفها بنقد مَن استضاف تلك المؤتمرات، مبيّنة بالوقائع والأرقام أن الفائدة الوحيدة التي قد تكون تحققت قد ذهبت إلى إسرائيل.
هذا مع الإشارة إلى أن قطر غنية بثرواتها الطبيعية، لا تحتاج ولا يمكن أن تطلب مساعدات أو هبات أو تبرعات، بل هي »مطموع فيها«، وإذا كانت تتعرض لضغوط أميركية ثقيلة من أجل إسرائيل فمؤكد أن تل أبيب لا الدوحة هي التي ستجني الثمار المحرَّمة سياسياً واقتصادياً.
* * *
التقيت أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لأول مرة، وهو ولي للعهد. وأسعدني ما سمعته منه ونقلته عنه من عواطف قومية أولها الإعجاب بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر وحركته الثورية التي حفظت كرامة الأمة، وآخرها وعده بالعمل مع إخوانه لاستعادة التضامن العربي، تعزيزاً للصمود في وجه احتلال إسرائيل ومخططاتها الاستيطانية التوسعية.
بعد شهور قليلة ارتفع صوت قطر شاكياً من تحرش سعودي كان ينذر بالتحول إلى مواجهة خطيرة، فعبّرنا عن تعاطفنا مع هذه الدولة الخليجية وهي تتعرض لما اعتبرته اعتداءً من قبل شقيقتها الكبرى.
ولكن، حين باشرت قطر اتصالاتها الرسمية مع إسرائيل، في خريف العام 1993، وجَّهنا في »السفير«، كما وجَّه غيرنا من أصحاب الأقلام القومية نقداً صريحاً لهذه الخطوة التي رأيناها تورطاً غير مبرّر في طريق غير آمنة، وسجلنا اعتراضنا على التخلي عنا وتجاهل دمنا المسفوح فوق أرضنا نتيجة للاحتلال الإسرائيلي المستمر واعتداءاته اليومية.
آنذاك، اتصل بنا أكثر من مسؤول قطري يؤكد لنا أن انتقادنا »لهذا المسلك الاضطراري الذي لجأت إليه الدوحة« لن يفسد للود قضية، وأن الحكم في قطر يقدّر تمام التقدير التزامنا بموقفنا المبدئي، وتعبيراً عن هذا التقدير فإنه لن يمنع »السفير« من دخول قطر ولن يصادرها وسيتركها تصل إلى قرائها هناك.
كانت تلك لفتة طيبة استقبلناها معجبين بسعة صدر »العهد الجديد« في قطر، خصوصاً وقد عاد إلى تأكيدها مباشرة بدعوة إلى الحوار في الدوحة احتراماً منه لموقفنا الذي يعرف أنه »موقف مبدئي وليس عن نزوة أو غرض أو مزايدة أو نتيجة تحريض أو طلباً لرضى هذه الجهة أو تلك«.
ثم توالت الاتصالات بين الدوحة ممثلة بوزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر وبين الإسرائيليين.. وكان العذر أن قطر تريد أن تؤمن نفسها من خطر الاجتياح السعودي، وأنها تحرشت بالأميركيين عبر توثيق العلاقة مع إيران (وحكاية مد المياه من نهر كارون إليها!!)، فلم يتحركوا، وحاولت أيضاً عبر التوجه نحو العراق، فلم يظهروا اهتماماً، وأخيراً توجهت إليهم تسألهم مباشرة فأبلغوها أن »مفاتيح واشنطن في تل أبيب ولا بد من أن يجيء قاصدها عبر الإسرائيليين«.
ويروي الشيخ حمد بن جاسم أنه حين وافق على لقاء وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك (شيمون بيريز)، تمّ تحديد موعد له، وعلى الفور، مع نائب الرئيس الأميركي آل غور!
كانت الذريعة آنذاك: الخطر السعودي..
بعد حين، وبفضل مجموعة من الوساطات العربية أبرزها تلك التي تولاها الرئيس المصري حسني مبارك، أمكن التوصل إلى تسوية لمشكلة الحدود مع السعودية.
وافترض الكل أنه بزوال الذريعة يمكن الرجوع عن الخطأ.
عشية مؤتمر القمة، التقينا الشيخ حمد بن جاسم في دمشق! وكان ذلك مؤشرا على أن رحلة الخطأ تتجه نحو نهايتها. واتهمني الشيخ، أمام وزير خارجية سوريا فاروق الشرع، بأنني أهاجم قطر وأتجنى عليه شخصياً، وأنني أستقوي بسوريا.. فرد الوزير الرفيع التهذيب: »بل نحن نقوى بجريدة »السفير« وكذلك كل العرب«.
انعقدت القمة العربية وكانت محاولة لاستعادة التضامن العربي ووقف التطبيع مع إسرائيل خصوصاً وقد اجتاح أقصى التطرف سدة السلطة فيها.. وأعلنت قطر وسائر الدول العربية »المتورطة« التزامها بمقررات القمة، فرحب الجميع بهذا الالتزام، ونحن منهم.
لكن قطر ظلت تحاول استنقاذ »حقها« في استضافة المؤتمر الاقتصادي لدول الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، متذرعة بأنها إنما تنفذ التزاما دوليا سابقا على القمة.. ثم انها لا تفعل إلا ما فعلته عواصم عربية أخرى بينها القاهرة ذاتها، وأغفلت الدوحة تبدل الظروف وسقوط الشرق أوسطية وأحلامها وبطلها بيريز في إسرائيل، ووصول التطرف الاسرائيلي الى السلطة، ممثلا بنتنياهو مما يجعل عقد المؤتمر في الدوحة مكافأة له لا يستحقها، وهو ما سوف يشجعه على المضي قدما في سياسته الخرقاء التي يقاومها بالدم الفلسطينيون داخل أرضهم، وبالصمود الباسل اللبنانيون والسوريون يساندهم معظم إخوانهم العرب.
وذهب أمير قطر إلى واشنطن وليس على جدول الأعمال إلا بند أوحد هو المؤتمر الاقتصادي. وكان المسرح معداً فحوصر بمجموعة من اللقاءات مع المنظمات الصهيونية ومع التجار الإسرائيليين.
وكتبنا، من موقع الحرص على قطر وأميرها، نعترض على هذا التورط الجديد، وننبه إلى خطورة ما قد يترتب عليه عربيا، مما قد يؤذي سمعة قطر ومكانة أميرها.
… تماما كما كنا كتبنا معترضين، وبصوت أعلى، على الاتفاق الملكي الأردني مع إسرائيل، وعلى عقد ذلك المؤتمر الاقتصادي في دوراته الثلاث في الدار البيضاء وعمّان والقاهرة، وعلى خطوات التطبيع التي اتخذتها دول مثل تونس والمغرب وسلطنة عُمان إضافة الى مصر السادات السابقة الى المعاهدات والصلح، وإضافة الى عرفات واتفاقه البائس الذي كاد ينهي القضية بعدما مسخها فجعلها مسألة خلاف على شارع هنا أو على جبل هناك.
… وكما كنا قد اعترضنا في لبنان على اتفاق 17 أيار 1983 مع إسرائيل، وقد كلفنا اعتراضنا المبدئي أكثر من محاولة اغتيال، ما زلنا نحمل على الوجه والجبين آثار جراح أخطرها التي تمت بسلاح »البومب أكشن« أمام بوابة منزلي فجر الرابع عشر من تموز 1984.
وطبيعي أن نعترض، فهذا أبسط الإيمان.
فنحن ضحايا التطبيع بقدر ما نحن ضحايا الاحتلال.
إن التطبيع بينما نحن تحت الاحتلال يوحي وكأن أشقاءنا قد تخلوا عنا منحازين الى جلادينا، وهذا ما لا نرضاه لهم ولا نقبله منهم. وليس أقل من أن نرفع صوتنا بالاعتراض على أهلنا وهم يتخلون عنا ويساندون، بهذا التحول، عدونا وعدوهم، ضدنا.
إننا لا نصدق أن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة يمكن أن يقبل أن يوجّه إلينا مثل هذا الافتراء المفضوح الذي يروِّجه بعض العناصر الخاضعة للنفوذ الصهيوني داخل الادارة الأميركية.
اننا نعترض، ونرفع صوتنا الى مداه بالاعتراض، لكننا لا نملك غير رأينا، وهو ينبع من ضميرنا، وسنبقى عليه خصوصاً انه مدموغ بالدم.
والاحتلال هو الاحتلال، ومقاومته واجب وليست شرفاً فحسب.
وسلام على مَن اتبع الهدى..