طلال سلمان

رسالة إلى الغد…

إنها ليست إلا الخطوة الأولى. إنها أول خمس وعشرين سنة فحسب!

بين المطبعة التي تأبى أن تتحرّك لإنتاج العدد الأول، وبين التحوّلات التي لا تتوقف لتعطينا فرصة التفكير بموقعنا على صفحتها في عدد الغد، حاولت «السفير» أن تتخطى دور «الشاهد» و«الذاكرة» متقدمة من «التسجيل» إلى «التحليل» ومن النقل المحايد إلى حد التشويه، تحت ستار «الموضوعية» إلى التوغل في قلب الحدث وإعادة صياغة «الخبر» بما ينسجم مع الأساسيات التي يُراد لها أن تهمل فتنسى ولا يتبقى أمام القارئ غير الجزئيات المضللة.

صدرت «السفير» قبل مغيب الشمس عن الزمن الجميل.

وكان لزاماً عليها أن تنبّه، مع كل شمس جديدة، إلى أن التاريخ لم ينته، حتى لقد بدا وكأنها تحترف الدفاع عن الماضي، بينما كانت تدّعي لنفسها دور التبشير بالمستقبل.

في لبنان حوّلت ريح السموم العاصفة اتجاه الصراع الديموقراطي مع نظام الهيمنة الفئوية إلى حرب أهلية.

وفي مستنقع الاقتتال الأهلي اختنقت حركة المقاومة الفلسطينية، وزاغ بصرها عن هدف تحرير أرضها المحتلة، بينما كان العدو الإسرائيلي يخترق النسيج الاجتماعي في لبنان متقوياً بما حصده من انتصارات سياسية باهرة بعدما أخذ أنور السادات مصر إلى خيمة التفاوض بشروط الاحتلال طمعاً بالرعاية الأميركية.

وتوالت التراجعات بغير أن تنتهي المقاومة، لكن عصراً جديداً كان يطل إلى المنطقة العربية مسقطاً رايات نضال مجيد، مسفهاً شعارات لأهداف استحقت أن يسقط من أجلها الشهداء، فارضاً منطقاً لم يكن مقبولاً أو مألوفاً من قبل.

وها هي «السفير» اليوم تحاول أن تبقى نقطة ضوء، مستندة إلى إيمان راسخ بأن الأمة لن تموت، وأن الإنسان في لبنان، كما في سائر أرجاء الوطن العربي الكبير، مؤهل لأن يحمي وجوده، وقادر ـ ومن حقه ـ أن يكون في الغد ومن الغد، وليس بعض مخلفات الماضي.

وها هي مصادر الضوء تتعدّد، ونوره يشع فينشر هادئاً، رائقاً، متدفقاً من مواقع الصمود بالسلاح، إلى مواقع المواجهات المنتصرة بين الدم والسيف، إلى أرنون التي أسقط فيها طلاب الجامعات في لبنان، بإراداتهم وحدها، ليل الاحتلال فأجلوه وما بدّلوا تبديلاً.

***

إنها ليست إلا الخطوة الأولى، إنها أول خمس وعشرين سنة فحسب.

تأخر العدد الأول عن موعده فسبقته الشمس، لكن جمهور المتشوقين إلى التجديد، إلى النبرة العفية، إلى الموقف من داخل الحقيقة لا من خارجها، ظلوا على موعدهم معه، وما زلنا على عهدنا لهم.

كان العدد الأول دون الصورة المرتجاة من «السفير»، ولكنه حمل الوعد بأن صحيفة جديدة ومختلفة في طريقها لأن تكون ما وعدت به: ضد الظلم والظلام، جريدة مقاتلة من أجل الحقيقة، جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان.

وبينما كنا نبكي غيظاً وقهراً أمام مطابع دار صنين، ونداء الوطن، لأن الطبع تأخر عن موعده، ولأن العدد الأول أقل من قدراتنا، كانت الهيئة العامة لإدارة تحرير «السفير» تتلاقى لتجلدنا بالتهنئة: محسن إبراهيم وكريم مروة، جورج حبش وأبو ماهر اليماني، «أبو أياد» و«أبو جهاد»، عبد القادر غوقة ورفعت النمر، مصطفى الحسيني مصطفى نبيل، جميل مطر وفهمي هويدي ومكرم محمد أحمد، أحمد بهاء الدين، منح الصلح وشفيق الحوت والياس سحاب، حسين عبد الرازق وفريدة النقاش، عبد الله حوراني وحسين العودات وفيصل حوراني و…

استل الجميع أقلامهم، واقتحموا صفحات «السفير» التي اتسعت لأهل اليسار وأهل القومية وأهل الدعوة إلى الإسلام، وهكذا تلاقى ياسين الحافظ ونديم البيطار وميشال كامل وسمير أمين وأنور عبد الملك ومحمود السعدني وطابور «شعراء الجنوب».

والقائمة تضم اليوم أكثر من ثلاثة آلاف كاتب وصاحب رأي..

أما سعد الله ونوس فقد أراد «الثقافة» أن تكون الراية والطريق، واستدعى «صوت الأجداد» ليكون الحادي في مسيرتنا نحو الغد حتى لا تأخذنا الهجانة.. وظل نداؤه وسيبقى إحدى العاملات المضيئة على الطريق نحو غدّنا.

***

وقف إبراهيم عامر، فجأة، فبدا لنا وسط غيمة الدخان التي تلف مجلسنا أشبه بعلامة تعجب.. وران علينا صمت التوقع، فأجال بصره بيننا، نحن «كتيبة القيادة»، كما كان يسمينا، ثم قال بلهجة تظللها السخرية:

ـ هوّنوا عليكم يا أصدقاء، فنحن لا نخترع الصحافة! لقد عرف الإنسان الصحافة قبل آلاف السنين، ومارس هذه المهنة ثوار ودعاة ومحرّضون، أصحاب رأي وأصحاب غرض وأصحاب السلطان، وتعيَّش منها محترفون. أصدرت صحف للحكام، وأصدر المعارضون صحفاً.. وكل صحيفة رأت لنفسها دوراً أو ادّعت لنفسها رسالة. الخط السياسي هو الأساس. لنحدّد هدفنا بوضوح: ستكون «السفير» صحيفة مَن؟ ففي النهاية لن تكون «السفير» إلا صحيفة جديدة في قائمة طويلة تمتد بتاريخها عمقاً إلى أيام الفراعنة، وربما إلى ما قبل…

استفز الاستشهاد بالفراعنة من ماركسي مصري شوفينية الماركسي اللبناني المعتزل قومياً الياس عبود فهبّ يقول ـ لكن «السفير» ستكون مختلفة، ستكون بشارة الثورة.

قال بلال الحسن برصانة أهل الحل والعقد: ـ إننا لا نخترع ولكننا نضيف.. فلنقل إن «السفير» ستكون صحيفة القضية، صحيفة منحازة إلى الناس.

قال ميشال حلوة الذي يؤمن بأن العمل أهم من النظريات:

ـ من الناس؟! الكلّ يدعي أنه يعمل، يكتب، يصدر للناس. من ناس «السفير»؟!

قال ياسر نعمة الآتي من حركة القوميين العرب:

ـ القضايا موجودة تنتظر مَن ينهض بها، المهم النجاح في عرضها والدفاع عنها بعقل، بغير مبالغات ومغالطات و«هوبرات».

دخل ناجي العلي فأجال بيننا عينيه اللتين تريان ما لا يُرى، قبل أن يمد يده بمجموعة من رسومه التي لا تبقي بعدها مجالاً لقول:

ـ ملعون أبو السلاطين. كونوا الناس. لا تنسوا الناس.

تسابق رجال الصف الثاني باسم السبع وجوزف سماحة وحازم صاغية وفيصل سلمان وشوقي رافع فتخاطفوا رسوم ناجي، وقال قائلهم: كونا جريدة تليق بهذه الأفكار!

بلغ الانفعال بمحمد مشموشي ذروته فهز رأسه، وضحك توفيق صرداوي لتطرّف «أبي توفيق»، بينما كانت نجاة حرب تختطف الرسوم وتنطلق بها إلى القاعة الثانية حيث كان يحتشد «الشغيلة» راشد فايد ويوسف برجاوي ووليد شقير وعماد شقور وفاديا الشرقاوي وعمر الناطور ومختار زهير وعصام الجردي وزينب حسون وزينب سلمان وحسن السبع، وزعيم الجالية الكردية صالح نجيب، ونقيضه في الاسم وفي الدور نجيب صالح والمستشاران اللذان لا يستشاران حسين الحلاق وميلان عبيد، فتصاعدت صيحات الإعجاب!

قال حلمي التوني: هل آن أن نبدأ العمل؟!

ثم «زعق» بالمصورين زهير سعادة وعبد الرزاق السيد وأكرم هلال وعباس سلمان أن هاتوا «إبداعكم» لأمزقه!

واندفعنا نمزق ما كنا أعددناه لنكتب السطور الأولى في «السفير»!

اكشح شبح الأنظمة! أسقط صور الحكام. الغ الألقاب التي تجعل البعض ممتازاً. اتجه مباشرة إلى الناس، إلى آمالهم وهمومهم. ارفع صوتهم المحبوس. أسقط معهم جدار الخوف. تحرر بهم من الطائفية والمذهبية، من الكيانية والإقليمية، من التغرّب والهجانة. افتح عينيك على حقائق حياتك وقل الكلمة التي لا بد من أن تُقال.

وُلد الشعار كأنما من قلب التمني: صوت الذين لا صوت لهم!

سبقت الهوية العدد الأول، وكان علينا أن نؤكد جدارتنا بها كل صباح.. ما زلنا في الامتحان، ندخله يومياً ونعيش قلقنا حتى صدور العدد التالي..

في اليوم الثاني للصدور رُفعت على «السفير» أول دعوى قضائية، ثم توالت الدعاوى حتى بلغت 16 في عام واحد، معظمها كان لها عنوان محدد: المسّ برؤساء دول شقيقة أو صديقة!

واكبنا حركة الناس، فكان العنوان العريض للعدد التالي: 25 ألفاً يطالبون بتأميم الرغيف.

واكبنا بصولات الفدائيين، وفي 12 نيسان 1974 كانت «السفير» تصدح مع الصباح بتحية الشهداء: «احتلوا.. قاتلوا.. ونسفوا أنفسهم»!

بعد أيام كانت تصرخ في الحكام بلسان الإمام موسى الصدر: السلطة كذابة ومتخاذلة!

وعلى امتداد أسابيع نشرت «السفير» حكاية نهر المليون فقير (الليطاني)..

أما مع بداية 1975 فقد قرعت أجراس الإنذار: إنها يفرغون الجنوب! مع الدعوة لإعادة إعمار كفرشوبا.

بعد شهر واحد، وعشية انفجار الفتنة، خرجت «السفير» تحذر القيادات السياسية (الطائفية) من اللعب بنار الحرب الأهلية.. ووقفت مع الناس، في بداية أيار 1976، تقول: لا لرئيس الصوت الواحد!

في المقابل فقد وجدت نفسها تحذّر المقاومة الفلسطينية من التوغل داخل الخطأ، فتنبّه بعد اجتياح الدامور: لكي يبقى للسلاح شرفه!

وبينما أعطت رأس صفحتها الأولى كاملاً لفييتنام وهي تحرر نفسها بدمها، فقد رفضت الانحناء أو الصمت عندما اخترق السادات جدار المحرّمات فقام «بالزيارة» المعنونة: «الساقط عند المغتصب»!

ولقد حملها الابتهاج بانتصار الثورة الإسلامية في إيران على طغيان الشاه أن خرجت يوماً على التقاليد، فحملت العنوان بالفارسية وكان هو هو هتاف الجماهير في طهران: «بهمت خميني.. شاهنشاه در بدر شده»!

وكانت «السفير» قد قصدت «نوفل لي شاتو» بضواحي باريس فحاورت الخميني، ثم رافقته على طائرة العودة المظفرة إلى طهران، وذهبت إلى لقائه مجدداً في قم لتحاول استكشاف «العالم الجديد» الذي يبشّر به.

الحوار، الحوار، الحوار..

لكي نعرف أنفسنا والآخرين لا بد من الحوار: حوار من موقع المختلف حيناً، وحوار مع المتخاصمين وفي ما بينهم أحياناً، وحوار من أجل الحوار دائماً… لم تترك «السفير» ملكاً أو رئيساً أو زعيم حزب أو قائداً سياسياً يقبل على الحوار ويرغب فيه إلا وذهبت إليه، من أجل توسيع دائرة الرؤية أمام جمهور القراء.

في الداخل قصدت الجميع، سواء الذين كانوا يصنفون مواقعهم «حركة وطنية» أو الذين كانوا يفضلون تسمية «الجبهة اللبنانية»… ومع المقاومة الفلسطينية حاورت جميع الفصائل بغير تمييز. أما على المستوى العربي فقد تيسّر لها أن تحاور قيادة ليبيا (معمر القذافي) والسعودية (الملك فهد وولي العهد الأمير عبد الله والأمراء القياديين) ودولة الإمارات العربية المتحدة (الشيخ زايد)، وفي الكويت رئيس دولتها (الشيخ جابر الأحمد الصباح) وكبار المسؤولين، وفي قطر رئيس دولتها (الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني) وفي اليمن رئيسها (علي عبد الله صالح) وفي السودان الرئيس (عمر البشير) وفي الأردن (الملك الراحـل حسين) وولـي عهده (السابق ـ الأمير الحسن).

أما في سوريا فلقد حظيت «السفير» بأكثر من فرصة للقاء الرئيس حافظ الأسد وكتبت عن «زمن النضوج» وعن «لبنان في مجلس الأسد»… كما اتصل حوارها مع القياديين البارزين وبالذات نائب الرئيس عبد الحليم خدام ووزير الخارجية فاروق الشرع.

***

خاضت «السفير» منفردة حيناً ومع نقابة الصحافة دائماً، ومن قلبها، معركة الحريات أحياناً، حماية لذاتها كما لرسالتها ولحق المواطن في أن يعرف..

وقفت ما وسعها الوقوف ضد الرئاسة المسبقة، وضد الأحكام المسبقة، وضد التعطيل السابق على الحكم القضائي، وكانت طرفاً في كل المواجهات مع السلطة خصوصاً متى اشتطت فبغت وحاولت إسكات أصوات الاعتراض.

ضُربت بالصواريخ ولم تصمت «السفير».

عُطلت مراراً، ومرّت على لبنان أيام من دون أن تطل مع الصباح «السفير»، لكن «السفير» رجعت إلى أهلها في بيوتهم صباحاً جديداً.

ورفضت الحجر عليها في منطقة أو طائفة أو جهة سياسية لأنها «صحافة للوحدة والحرية»، وليست للطوائف أو لتجار المذاهب.

ولعل «السفير» أكثر صحيفة تعددت لها الاتهامات بالولاء لهذه الجهة أو تلك حتى بات كل اتهام يلغي الآخر: كانت «الليبية» مرة والسورية مرة، الفلسطينية مرة واليسارية مرة، الشيعية مرة والموالية للاتحاد السوفياتي مرة… لكن «السفير» ظلت «السفير».

جريدة القضية، جريدة الوحدة الوطنية، جريدة السلم الأهلي، جريدة العدالة الاجتماعية.

مع المقاومة الفلسطينية المسلحة، ثم مع الانتفاضة المجيدة في فلسطين وضد اتفاقات الإذعان المنفردة، ترفع صوتها من بيروت لنصرة شعب فلسطين: لست وحدك!

وترفع صوتها من بيروت ضد الحرب التي شنها صدام حسين على إيران.

كذلك ترفع صوتها ضد غزو صدام حسين الكويت.

ثم ضد حرب الإبادة والتجويع التي شُنّت على العراق وشعبه، فإنها تسقط كل التحفظات لتصرخ: إلى جهنم المسبِّب والمستفيد، لكنه دمي هذا الذي يجري!

كذلك فهي ترفع صوتها ضد العاملين لتفجير الجزائر وتراثها الثوري العظيم في حرب أهلية جعلت الجامع يغرق في طوفان دم المجاهدين.

أما في لبنان فقد استمرت «السفير» صوتاً صارخاً بطلب العدالة لـ «الضاحية ـ الضحية» و«لبيروت ـ الأميرة» التي طالما رماها بعض الجناة أو المضللين بماء النار، ثم دفاعاً عن حقوق المهجرين في العودة إلى قراهم الأصلية ليبقى لبنان وطناً للجميع.

ومن بعد بيروت، كان على «السفير» أن تخوض مع أبناء طرابلس والشمال الحرب ضد الفتنة وحتى «لا تحترق طرابلس بين نارين»، وحتى تخلع بيروت (وطرابلس وصيدا وكل المدن والقرى) قناع الحرب والميليشيات.

***

إنها ليست إلا الخطوة الأولى. إنها أول خمس وعشرين سنة فحسب.

لا مجال للزهو بما فعلناه في «السفير» ومعها على امتداد خمس وعشرين سنة طويلة ومثقلة بالأحداث الجسام والتحوّلات الهائلة، ابتداءً من بيروت وعلى مدار الكرة الأرضية وانتهاءً ببيروت مجدداً.

فليس أسهل من أن تستعيد الأمس، وأن تعيد صياغته بوعيك المستجد أو برؤيتك التي أنضجتها أو صحّحتها التجربة، وأن تنصب نفسك ناصحاً أو ديّاناً، أو أن تتبرّأ مما كان، مدعياً أنك حاولت وفشلت لأن الأمر كان أخطر من أن تبدّل فيه أو تغيّر مساره.

وليس سهلاً، بالضرورة، أن تكون تجربة أمسك جواز مرور إلى المستقبل، فتنتمي بها إليه وتتصدى للتعبير عنه.

لقد صدرت «السفير» في 26 آذار 1974 غداة حرب تشرين ـ أكتوبر بكل ما أحدثته من تحوّلات في الوطن العربي (بل في العالم)، انطلاقاً من التحوّل الخطير الذي طرأ على الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأدخلنا في متاهة الضياع عن الذات، وهي مستمرة بكل مفاعيلها المدمرة بعد.

الحرب الأهلية تلغي العقل وتطلق الغرائز من عقالها، وفي بلد كلبنان فإنها تسمح لوحوش الطائفية والمذهبية بالتهام كل مَن وما هو نظيف وأصيل ومستقبلي.

لقد كان علينا أن نقاتل أحياناً ضد مشاعرنا، لنحمي «صوت الذين لا صوت لهم» … كما اضطررنا في حالات كثيرة لأن نقاتل بعض «العرب» لتبقى «السفير» جريدة الوطن العربي في لبنان وجريدة لبنان في الوطن العربي.

جرفنا الخطأ أحياناً، وحرفتنا العاطفة أحياناً أخرى.

قهرنا الانقسام في حالات كثيرة، فضاع صدى صوتنا مع التوحيديين ولو إلى حين، ولجمنا الخوف على وحدة البلاد، فجعلنا نتردد في إكمال المعركة ضد الطائفيين، خصوصاً وقد عادوا فتوّزعوا الحكم مع إعادة النظر محدودة في الأنصبة والأسهم والحصص المقدسة!

وغابت عنا الصورة الكلية، أحياناً، فتهنا في الجزئيات.

ولكننا ظللنا دائماً نحاول أن نحفظ لـ«السفير» موقعها: داعية للوحدة محلياً، وداعية للتضامن عربياً، وداعية للتنبّه لخطر المشروع الإسرائيلي دائماً.

وعندما لاحت تباشير السلم الأهلي وبوشر بإرساء دعائم دولته بعد إنهاء التمرّد في 13 تشرين الأول 1990 تطوّعت «السفير» للدعوة للجمهورية الثانية، وانهمكنا، كما انهمك سائر اللبنانيين، في ترميم أنفسنا وخطوط الاتصال مع أهلنا في الداخل (ظلت «السفير» لعشر سنوات أو يزيد صحيفة صباحية في بيروت، مسائية في طرابلس والشمال ـ كما انقطعت وما تزال عن أهلنا في الشريط المحتل. أما المصادرات والمنع المؤقت والإحراق والاعتداءات المباشرة على المكاتب والمطابع والمحررين والعمال فحدّث ولا حرج..).

لم تكن «السفير» في أي يوم صحيفة عادية، ولم نتعلم معها وفيها أن نكون مجرد وسيلة إعلامية تسعى لأن تسبق بخبر الغد والصورة، ثم ترتاح إلى حسن اتقان الصنعة، بمعزل عن وظيفتها السياسية أو عن أثرها الثقافي العام.

وُلدت في حضن القلق، وقد زاد صدورها من أسباب القلق، وها نحن نتوغل في الزمن مبتعدين عن همومنا الذاتية نحو مصدر القلق العام في الحاضر وعليه ومعه المستقبل الذي يصعب تصوّره إلا كمساحة جرح مفتوح في جسد عربي متهالك ومقطع الأوصال.

صدرت «السفير» وهي تقدِّم نفسها صحيفة للقضية.

ولم تكن «القضية» بحاجة إلى تعريف، إذ كانت الكلمة بذاتها تختزل الأحلام والطاقات والطموحات العربية جميعاً: من التحرّر إلى التحرير، من العدالة إلى التقدم، من استعادة الوعي بالذات إلى توكيد الجدارة بالدور والإسهام في الحضارة الإنسانية.

لم تكن الشعارات التي سبقتها إلى الناس تعلن ما هو خارج هويتها، أي خارج ما نريد أن نقوله فيها وعبرها.

أردنا، بوعي، أن تكون «صوت الذين لا صوت لهم».

وقرّرنا، بالإرادة كما بالانتماء، أن تكون «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان».

كنا مطمئنين إلى الكفاءة المهنية لذلك الحشد من الصحافيين المجربين والكتاب المتميزين والفنانين المبدعين والمواهب الشابة الواعدة.

وكنا نرى مهمتنا سهلة، فإذا ما وُضعت الكفاءة المهنية في خدمة خط وطني وقضية قومية فإن النجاح حتمي.

ذلك أن إيماننا بالإنسان العربي كان وما زال عظيماً، إنه مقاتل ممتاز، وهو مستعد لدفع كلفة أهدافه العظيمة، بصبره وجلده وتضحياته… إنه يقاتل بيومه طلباً لغده الأفضل، يضحّي بخبزه من أجل حريته، ويضحّي بحياته من أجل حق وطنه في الحياة.

وها هي المقاومة الباسلة في لبنان ترفع دمها مشعلاً يشق الظلمات وينشر بعض النور في لبنان ومن حوله.

وهي تقاتل الاحتلال وإسرائيل في ذروة قوتها وجبروتها وتجبّرها، وقد استطاعت تطويع العديد من الأنظمة العربية.

ولقد واكبت «السفير» ركب المقاومة، بشرّت بها واهتدت بقبسها. «جنوباً دُر، جنوباً سر.. وانتصر» وحتى اليوم.

ذلك كان في الماضي، ولكنه عُذر لما نحن عليه في الحاضر.

طموحنا أعظم بكثير من واقعنا، لكن الواقع سرعان ما يتحوّل إلى طوق من حديد.

بقيت «السفير» في بيروت، لكن «السفيريين» انتشروا فتوزّعوا على كل صحف الوطن العربي و«المهاجر» تقريباً.

ظلت «السفير» قابضة على جمر عروبتها، لكن الأنظمة العربية انهمكت في حرب لا تنتهي ضد كل عوامل الارتباط أو التضامن أو أي قدر من التنسيق، حتى بات متعذراً عقد لقاء عربي في إطار جامعة الدول العربية، ولو للتشاور وعلى مستوى الوزراء فحسب.

على أننا ما زلنا على الطريق نحاول، ولسوف نستمر.

إن مراجعة بسيطة لعناوين العدد الأول تدلّ على حجم التغيير، على تبدّل الاهتمامات، على اختلاف الزمان واللغة: حسمت الحياة مشكلات عديدة، وحسم الموت خلافات حادة، وكادت عاديات الأيام تذهب ببعض الثوابت، أو تعدّل فيها بما يكاد يلغيها.

سقطت أمبراطوريات، وزالت دول، وذابت أحزاب واندثرت عقائد.

أسقطت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني عرش الشاه في إيران مطلقة رياح التغيير من بعض مراكز الدعوة المصنّفة تقليدياً حصوناً للجمود والاستسلام لولي الأمر.

سقط الاتحاد السوفياتي، ولم يصمد الاتحاد الروسي أمام اقتصاد السوق، فحكمته المافيات بدلاً من القيادات الحزبية المترهلة، واندثر المعسكر الاشتراكي في غياهب الحلف الأطلسي، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم حرباً وسلماً، أرضاً وفضاءً، اقتصاداً واكتشافات علمية.

قام الاتحاد الأوروبي من دون أن ينجح في تشكيل «معادل» أو «منافس» أو «شريك» جدي للقطب الأميركي الأوحد، حتى بعدما أكد وحدته اقتصادياً بعملته الجديدة: اليورو.

وغزا صدام حسين الكويت فتمّ اجتياح العراق وتمزيقه وفُرض عليه الحجر الدولي.

وضاق العالم كثيراً حتى غدا زنزانة.

أعلنت نهاية التاريخ، وتمّ إعدام الثورة في الشارع، وطوردت الأفكار والأحلام وصودرت المنافي فلم يبق ثمة ملجأ لإيواء ثائر أو التبشير بفكرة جديدة تقول بالتغيير!

عندما بدأنا العمل افترضنا أن علينا إكمال ما بدأه السابقون.

وبينما كان دور الأولين التبشير بالعروبة عقيدة وثقافة وركيزة أساسية من ركائز المستقبل الأفضل، فقد فُرض علينا ليس أن نكمل ما باشروه، بل أن نحمي العروبة فينا.

ومع البداية كنا ننتظم داخل صفوف المتصدّين للمشروع الإسرائيلي، نبشر بالكفاح من أجل تحرير فلسطين وعودة أهلها إليها.

أما اليوم فقد تقلص دورنا إلى محاولة تعزيز الصمود في وجه الاجتياح الإسرائيلي للعرب مجتمعين، توسعاً على الأرض وهيمنة على المقدرات والمصائر.

كنا نقف على أرض صلبة من حاضر جاء تحقيقاً لبعض أحلام الماضي.. ونحن الآن نكاد لا نجد أرضاً نقف عليها في مستقبلنا. خصوصاً وقد ذبحنا الماضي بذريعة استنقاذ الحاضر.

كان لقضايانا قداسة تستمدها من اتصالها بضمير الناس والتأثير على موقعهم من دنياهم، بحيث إنها تستحق أن تصدر لها صحف..

أما الآن وقد تهنا عن قضايانا أو أضعناها بالتفريط أو بالخوف من مسؤوليتنا عنها، فقد صار مشروعاً السؤال عن مهمة الصحف وعمّا تقدمه للقارئ: هل هي مطبوعات للتسلية أم منشورات دعائية أم كتابة على الماء؟!

وللتسلية وسائطها الأقوى من الصحافة، كما للأخبار وسائل أسرع وأكمل وصولاً بالصورة والصمت الحي المخترق للمسافات.

وليس بغير دلالة أن تكون المطبوعات التي تُعنى بالفن طرباً وغناءً ورقصاً، وبالرياضة كرة قدم ومصارعة وملاكمة… إلخ. أكثر توزيعاً من المطبوعات السياسية، التي يُفترض أنها تشكيل حصوناً أو منابر أو رايات للديموقراطية.

كذلك ليس بغير دلالة أن تكون الكتب عموماً، الفكرية منها والعلمية وفنون الأدب من رواية وشعر ومسرح، هي الأقل بيعاً وتوزيعاً في وطننا العربي الكبير.

إن جمهوراً يقرأ هو جمهور يهتم: تشغله القضايا العامة، وله رأيه الذي يحرص على أن يكون الأقرب إلى الصحة وإلى التأثير والإقناع خدمة لقضيته وانتصاراً لها.

ومن أسف أن علينا الاعتراف، بشجاعة، بأن الجمهور قد انفضّ عن القراءة.

إن عادة القراءة عموماً، وقراءة الصحف خصوصاً، تذوي وتضعف.

وفي بلد كلبنان تعجّ جنباته بالجامعات التي يتلاقى في أفيائها عشرات الألوف من الطلاب، من المحزن أن يكون عدد القراء بين الطلاب الجامعيين أقل من أبأس التقديرات.

وفي الوطن العربي عموماً فإن الحزن يبلغ مداه متى عرفنا أن المواطن يخصص نصف ساعة في العام (!!) للقراءة.

إن الصحافة، ككل مؤسسات الديموقراطية، تعيش بالناس ومع الناس ومن الناس.

وتعيش كحلقة في منظومة مؤسسات تعبّر عن الديموقراطية أو تجسّدها أو ترشدها وتحميها،

لا تعيش الصحافة في ظل طغيان الرأي الواحد، دكتاتورياً كان أو طائفياً، أو معبّراً عن مصلحة فرد واحد أو جماعة من القادرين بالمال والنفوذ على إلغاء الآخرين.

والصحافة في لبنان، و«السفير» إحدى راياتها، ما تزال تقاوم… وستبقى.

ولقد كانت تجربة القرار بتعطيل «السفير» في أيار 1993 مناسبة ممتازة لتوكيد تعلق اللبنانيين بالحرية، وشهادة لـ«السفير» على التزامها بقضية المواطن في لبنان، وبحقوق الإنسان العربي عموماً، وأبسطها حقه في أن يعرف وفي أن يعبر عن نفسه وفي أن يختلف مع حاكمه متى أخطأ!

***

عذراً لما نحن عليه في الحاضر؟

ولكننا كنا نأمل ونعمل لنلحق، ولا نقول لنسبق.

وحين باشرنا تجهيز «السفير» بما يتناسب مع العصر، وأقمنا الدورات الأولى للتدريب على الكمبيوتر، كنا قد تأخرنا كثيراً عن العالم الجديد، ولم ينفعنا أن نكون الأوائل في بيروت.

وها نحن نتابع في ظروف أقسى بما لا يُقاس من ظروف التأسيس ونعيش النتائج الفظيعة للحرب الأهلية كما للحروب العربية ـ العربية التي ضربت الإيمان بوحدة المصير.

وسنواصل، برغم قساوة الظرف، وبرغم ضآلة الإمكانات المتاحة.

سنواصل رفع شعارنا «صوت الذين لا صوت لهم»، كما يواصل كل مواطن نضاله لإعادة بناء حياته.

وسنكمل رحلتنا، معاً، ماشين فوق الصعب، من أجل أن يكون للإنسان مستقبله الأفضل.

وسنتابع برغم تحول حدود الكيانات إلى قواعد احتلال للأجنبي، أميركياً كان أم إسرائيلياً، سعينا لأن تكون «السفير» جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان.

وإلى خمس وعشرين سنة جديدة، مع العهد بأن نستمر نحاول أن نعطي أقصى الجهد، وأن نجتهد في الوصول إلى الحقيقة، وفي تعميمها ما وسعنا الجهد، والإنسان غايتنا.

وكل خمس وعشرين سنة وأنتم بخير.

افتتاحية كتاب “السفير 25 عاماً”، 26/3/1999

 

Exit mobile version