فيروز قالت: رجعت الشتوية. فيروز لا تكذب ولا تبالغ. أنظر إلى النساء فرحة أكثرهن غامرة. سمعتهن يتبادلن التهاني وعادت الأسواق تزدحم بالمتبضعات. قالت إحداهن إنه البرد ـ وليس تخفيضات الجمعة الحزينة ـ الذي دفع بمئات الألوف إلى الشوارع ومنها إلى المولات والشوارع التجارية. اختلطت بالناس أبحث عن البرد الذي أدخل كل هذه السعادة وأخرج كل هذا المخزون من الأموال واكتسوا من أجله بالمعاطف واتشحوا بالكوفيات الصوفية.
***
أمشي إلى المدرسة مع أصحابي وأحيانا مع أبي وكثيرا مع فتاة ريفية كلفتها أمي بمرافقتي لتحمل عنى “عمود” غذائي وحقيبة كتبي وكراساتي. غرسوا في أذهاننا أن برد الشتاء قارس أو لعله كان بالفعل قارسا. كنت طفلا ممتلئا وبالبلوفرات الصوف والجاكتات الشتوية والأنف الأحمر والخدود الوردية والعيون المدمعة بدوت بالتأكيد كدب صغير. كم عصينا أوامر بعدم تناول الحمص الغاطس في الماء المغلي ملتهبا بالشطة الحمرا. كان مسموحا، وأنا بصحبة أبي، تدفئة جوفي بصحن “بليلة” يزينها الزبيب وجوز الهند المبشور والسكر البودرة ورشة القرفة. نعم كان البرد شديدا. نمشي في طابور نكاد نلتصق بالبنايات والمحال مستفيدين من دفء نتخيله منبعثا منها، وفي الوقت نفسه مبتعدين عن حوض الطريق المبتل أو الغارق في بقايا أمطار الليل ترشنا بها السيارات المارة. أذكر الحافلات الكبيرة والسيارات الصغيرة على حد سواء، جميعها ينفث بخارا هائلا. الشارع كله بخار. بخار من السيارات وبخار من عربات الفول والطعمية وعربات الحمص المغلي والبليلة والذرة ولكن أكثر البخار ينبعث منا، نحن الأطفال والكبار المارين على الأرصفة. هذا البخار الذي لم أجده منبعثا يوم مشيت أبحث عن علامات الشتاء على وجوه المتبضعات وأطفالهن. تذكرت لحظة توقفت أمام نافذة بوتيك يبيع الملابس الحريمي الجاهزة في مدينة أوروبية وكان يوم شتاء فإذا بمديرة المحل تخرج من المحل لتطلب مني في أدب جم عدم الوقوف طويلا لأن البخار المنبعث من فمي صنع غمامة غطت زجاج الفاترينة. كانت تتكلم وبخارها يسابق بخاري في تكثيف الغمامة. أين ذاك الشتاء من شتوية فيروز التي زفت إلينا هذا الصباح نبأ رجوعها.
***
عرفت الشتاء قارسا في مواقع عديدة. عرفته في أثناء الليل في مخيم للكشافة بصحراء حلوان في أعقاب سهرة كشفية حول نار ظلت مشتعلة حتى منتصف الليل وعواء ذئاب لم ينقطع. عرفته فوق سطح باخرة نيلية نقلتنا إلى حدودنا مع السودان. كنت عضوا في فريق جوالة في رحلة تدريب على العمل التطوعي في ظروف شاقة. الظرف الشاق الذي اختاروه لنا فرض علينا أن نقضي الليل على سطح باخرة تنقل حيوانات حية وعشرات المسافرين والمسافرات وأطنان البضائع والمأكولات. كان مسموحا لنا وغيرنا من الركاب أن نوقد النار لنطبخ ونتدفأ.
***
عرفته قارسا في بكين ثم في مونتريال وفي أنحاء متفرقة من النمسا وسويسرا وأسكتلندا وأقصى جنوب شيلي والأرجنتين. تأكدت هناك من أن الإنسان مخلوق “مداري”، بمعنى أنه لم يخلق ليعيش طول حياته في أقاليم شديدة البرودة. اعتقدت في مرحلة أو أخرى أن الإنسان لم يعش في ألاسكا وسيبيريا وربما في دول إسكندينافيا إلا مجبرا. تفهمت أنه يمكن أن يعيش في بلاد شديدة الحرارة مثل الهند وبعض دول غرب إفريقيا ولكنه غير مؤهل ككائن حي ليعيش في بلاد جليدية أو شديدة البرودة وإلا لزودته الطبيعة بكسوة من الفرو يولد بها ويعيش فيها تحميه من البرد القارس، البرد الذي لا يتحمله جلدنا الناعم. هذا الإنسان يحيا بالشمس وبضوء النهار. لا أتصوره قادرا على ممارسة بيات موسمي كأن ينزوي أو ينعزل في الشتاء. سمعت عن أهل مدينة ريجيكان القابعة في قاع أحد وديان النرويج، ضجروا من العيش ستة شهور في الظلام الدامس حتى جاءتهم فكرة استخدام مرايا عملاقة تعيد إرسال ضوء الشمس من القرى الكائنة على الناحية الأخرى من الوادي، تعيد إرسالها إلى قريتهم. هل يمكن لضوء الشمس أن يعطى وحده الشعور بالدفء؟. أنا نفسي كنت أتصور مثلا أن حضن الإنسان لأخيه الإنسان وبخاصة حضن الأم لطفلها كاف لإثارة الشعور بالدفء لدى الحاضن والمحضون على حد سواء، كبرت وتأكدت كثيرا من تصورات طفولتي. نعم يمكن للحضن أن يثير الشعور بدفء بل وأحيانا يغنى عن أى مصدر آخر للدفء.
***
يبدو لى أن شتاء مصر صار أقصر أمدا وأقل برودة من شتاء طفولتنا بل ومن شتاء شبابنا. تقول إحصاءات الأرصاد أن عام 2016 كان العام الأدفأ في التاريخ المسجل. رحت أسأل فوجدت من يوافقني الرأي على أن خريف مصر هو الآن أطول مما كان في الماضي. لاحظت مثلا أن الشجر الذي كنت أعرفه مع بداية الخريف متلهفا على التخلص من أوراقه أصبح في السنوات الأخيرة مترددا. أوراق الخريف تعيش الآن مدة أطول على غصونها ودليلي على صدق الملاحظة أن ألوان الخريف المبهجة تصر على البقاء متجاوزة مدة صلاحيتها مستفيدة من اعتدال الشتاء وتَلَكُئِه في الوصول. سألت وتأكدت.
***
اخترع الإنسان تقسيم السنة إلى فصول أربعة وفضله على اختراعات أخرى وبعدها راح يفضل فصلا على آخر. أنا شخصيا أحب الفصول جميعا وأجد في كل فصل ما يميزه ويجعله بالنسبة لي مرغوبا. الشتاء يسمح لي بالاختلاء بنفسى مددا طويلة، يشجع الناس على التزام الهدوء وخفض الصوت، يمنح الليل فرصة ليمتد ويطول فيستفيد منها أهل الليل وأحباؤه ومريدوه.
وللشتاء خصوم أعرف بعضهم وأسمع وأقرأ عن غيرهم، قرأت لكامو قوله: “في عمق الشتاء تعلمت أن في داخلي صيفا لا يهزم”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق