هذا هو لبنان الحقيقي، إنه يشبهكم. لبنان الخائف والمخيف مثلكم تماماً. لا أحد يتبرأ منه. إنه بلد مفخخ تماماً، مستعد للدم. في لحظة خلاف، والخلافات ميسورة ومزمنة ولها مستقبل قاتم ودامٍ.
لبنان السيادة، الدولة، الوطن، المواطن، الديموقراطية، العدالة، المساواة الـ.. خرافة الماكرة.. سيرته تدل عليه. لم يصدف مرة واحدة، ان كان إلا كما هو الآن. انه معتلٌ بطبيعته. أي، منذ إستولد.
فرنسا وبريطانيا ارتكبتا في هذه المنطقة، آثاماً مدمرة ولا تمحى: زرعتا اسرائيل في فلسطين. اعطتا الاردن لسلالة والعراق لسلالة أخرى. لبنان “الكبير” اعطي لسلالة دينية، اعطي للموارنة. انه هدية. في البداية، وجد الموارنة ان هذا اللبنان لا يطعمهم ولا يعفيهم من مجاعة، كانت قد حصدت منهم عشرات الآلاف في الحرب الكونية…المسلمون الذين إنتزعوا وإلصقوا بلبنان، رفضوا ثم اذعنوا، وتحديداً، بعدما تخلى عنهم حلفاؤهم في دمشق. هزمتهم الجيوش الغربية. قبلوا بالتجزئة، بعدما كان شعارهم: وحدة واستقلال. أُشرك السنة في ولائهم للبنان. هم لبنانيون وعرب وسنة. المسيحيون أُشركوا كذلك. هم لبنانيون تحت مظلة ورعاية غربية..
وعليه، لم يتفق لبنانيو ذلك الزمن على هوية لبنان. هل هي فينيقية؟ ام عربية؟ ام سورية؟ أم لبنانية بحتة.. الغلبة كانت للموارنة. ناضل السنة كثيراً ليحظوا بمواقع مفتاحية ونفوذ عبر مناصب. حصلوا على اليسير عنوة. الدروز اكتفوا بحصتهم وركنوا. ظل الشيعة خارج خريطة التوزيع الطائفي. فرنسا حطمت آمالهم الوحدوية، واخضعتهم بالقوة العسكرية للكيان. هكذا، ظلوا مهملين سياسياً إلى لحظة صعود نجم السيد موسى الصدر.
استطاع الصدر أن يضع الشيعة في مصاف القوة الطائفية التي لا بد لها من حيز سياسي ومن حصة على موائد الدولة.. هكذا اكتمل العقد الطائفي. وكان ما كان.. وهو يشبه ما يكون اليوم، وما سيكون عليه غداً.
الأحزاب والقوى والمنظمات العلمانية الديموقراطية أخفقت في أن ترسم مساراً ـ مسلكاً. وهذا مشهد لا بد من استعادته، لنقده وتقييمه.. إذاً. لبنان ولد معطوباً. كان هدية ملغومة. لم يستقر على قاعدة. كان لبنان يعيش “صيغة التعايش المتوجَّس”. احتلت كل طائفة مواقعها وصانتها من المحاسبة، الرئاسات للطوائف الثلاث. الوزراء للطوائف على اساس النسبية العددية! مجلس النواب تستولده الطوائف، بقوانين انتخابية مؤصلة طائفياً. الوزارات توزع طائفياً. الوظائف كذلك. القضاء ايضاً وايضاً. الجيش على غرار الآخرين. اجهزة الامن كذلك إلى آخره… وكلها أوصلت البلد إلى آخرته.
هذا هو لبنان يا ناس. لا تتعجبوا ابداً. تعجبوا فقط، من اناس هم الكثرة في لبنان، الذين يتمسكون بالطائفية ولو قادتهم إلى حافة السكين، والى رفع المتاريس، والقتل على الهوية، وتهجير الاقليات الطائفية إلى آخر المأساة الدموية المتكررة. فلبنان ليس لكل اللبنانيين. لكل طائفة لبنانها، في هذا اللبنان السيء التركيب.
تبين في ما بعد، أن الطوائف في لبنان ليست يتيمة. لا بد لها من حماية. الامتداد الخارجي، هو هو يأتي، وفق عقيدة الطائفة الدينية. الدين هنا ليس عقيدة روحانية. انه عقيدة سياسية انتهازية وموغلة في الدم والانتقام والتبعية.
السنة لبنانيون قليلاً، وعربٌ كثيراً. الموارنة لبنانيون كثيراً وغربيون مرجعية وحماية. الشيعة بعد صحوتهم في الستينيات، ثم بعد الثورة الايرانية، هم هنا وهناك معاً. وهم الاقوى. ويقع على عاتقهم تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. وقد تم ذلك في العام الفين، وهم الآن يحرسون لبنان من أي اعتداء اسرائيلي، وعيونهم على فلسطين، كما اسلحتهم.
هذا اللبنان، ليس واحداً ابداً. هكذا كان وهكذا هو الآن، وهكذا سيكون إلى اجل غير مسمى.
هذا اللبنان انقسم عندما تبنى كميل شمعون مشروع ايزنهاور. أسقط المعارضة، فتمردت عليه، مدعومة من تيار مصري، عربي، سوري، ناصري. ما أفضى إلى ثورة وحرب اهلية، افرزت واقعاً جديداً: لبنان يُحكم من الداخل، برضى الخارج. ولهذا، وبعد لقاء الخيمة على الحدود السورية-اللبنانية بين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، احتلت السفارة المصرية موقعاً متقدماً، وصارت مرجعاً سياسياً، ويطلب منها التدخل لحل المشكلات التي كانت تطرأ. في زمن عبد الناصر، كان لبنان ناصريا قليلاً، وغربياً قليلاً، وعربياً قليلاً. لم تحصل احداث خطيرة. أرسى فؤاد شهاب صيغة انتقاء المواقف، التي تُرضي الخارج العربي، أي عبد الناصر، من دون أن تكسر ظهر الطوائف التي تتلمظ وتكبت غيظاً، ما لبث أن انفجر بفجور، بعد حرب حزيران/يونيو 1967، التي خرج منها عبد الناصر، مثخناً بالجراح، ممهداً الطريق لأفوله الباكر.
هزيمة الجيوش العربية. السورية والاردنية والمصرية، اراحت الموارنة الذين التأم شملهم لأول مرة فكان أن تألف تكتل سياسي ماروني. يضم الطيف السياسي الماروني: كميل شمعون، بيار الجميّل، ريمون إده وانقض هذا المثلث الماروني، على السياسة الخارجية. وأحدث انقلاباً رئاسيا. أسفر عن ملاحقة الارث الشهابي المتوازن. لكن حساب الحقل الماروني، لم يطابق حساب الثورة الفلسطينية، التي كان تعاظمها قد بدأ، بعد سحق اسرائيل للجيوش العربية في حرب حزيران. تسللت المنظمات الفلسطينية إلى الاردن ولبنان. سوريا اقفلت ابوابها ومنعت المقاومة الفلسطينية من اقامة قواعدها في اراضيها وفي مرتفعاتها تحديداً.
حصة الاردن، كانت مذبحة للفلسطينيين. تهجروا من هناك. وجدوا طريقهم إلى العرقوب فكل الجنوب. انقسم اللبنانيون. المسلمون رحبوا بالفلسطينيين والمقاومة، فيما توجَّس المسيحيون من هذا التغلغل. فشل لبنان في معالجة هذا الاقتحام. “لبنان، للبنانيين وليس للفلسطينيين”. شعار قيل عنه يومذاك انه انعزالي. وعلى عادة لبنان، انقسم اللبنانيون، طائفياً ودينياً ومذهبياً. انفجر الوضع في 13 نيسان/أبريل 1975. ما كان ممكناً الا أن ينفجر.
المسيحيون يريدون لبنان لبنانياً فقط لا غير. ولكن الآخرين، يرون أن فلسطين ليست مسألة فلسطينية فقط، بل هي مسألة عربية ولبنانية.. انقسم اللبنانيون. تسلَّحوا. احتلوا مواقع لهم. تحوَّلت مخيماتهم إلى قلاع مسلحة. تغلغلوا جنوباً، انتشروا في العاصمة. لم يعد القرار لبنانياً ابداً. كل قرار بحاجة إلى معرفة رأي ابو عمار.. وصار ما صار. انفجر لبنان. انفجرت الصيغة. الموارنة والمسيحيون في جهة، والقوى الاسلامية في جهة أخرى. اضافة إلى القوى القومية واليسارية والتقدمية..
لذا، هذا ليس وطناً. هذا مسلخ.
بعيداً عن التاريخ القريب لآثار الجلجلة اللبنانية. لا بد من إمعان النظر والفكر، بهدوء وتأمل، بالقيادات “السياسية” الراهنة. انظروا اليها جيداً. افتحوا سجلاتها. اقرأوا يومياتها. افحصوا مآثرها. عددوا ارتكاباتها.. “من زمان وجاي”.. ثم. لاحظوا جيداً. انهم جميعاً، شاركوا في قيادة المعارك الأهلية..
انظروا إليهم واحداً واحداً. من الرئاسة الأولى، إلى الرئاسة الثانية، إلى رؤساء الاحزاب الحاكمة، او في ما يسمى الطغمة. هؤلاء حكمونا. ويحكموننا وسيحكموننا، إما هم أو آخرون من نسلهم.
في التاريخ لعنات كثيرة. هنا، ذروة اللعنات.
فماذا نقول لك يا لبنان؟ هل نقول إنك صليبنا.
طبعاً. هذه جلجلتنا. ولا قيامة بعد ذلك.
أراهن أياً كان، على أن المستقبل اللبناني سيولد من هذا اللبنان الذابح والمذبوح.