لا تعرف أكثرية اللبنانيين ريمون إده بشخصه، فهناك جيلان على الأقل لم يتعرفوا إليه مباشرة، ولا هم استمعوا إلى صوته، ثم إنهم بالكاد لمحوا صورة له خلال ربع قرن من الغياب.
لكن »العميد« عاش في ضمير اللبنانيين جميعا، بمن في ذلك مَن يخالفه الرأي ويختلف معه في هذا أو ذاك من مواقفه السياسية… ولعله أكثر السياسيين اختراقا للطبقات والفئات العمرية والطوائف والمذاهب والأحزاب على تنوعها واختلاف »إيديولوجياتها«!
ومع أن اللبنانيين لن يرتدوا أثواب الحداد، ولن تنكس الأعلام على الدوائر الرسمية، لكنهم استقبلوا نبأ رحيله بحزن عفوي شبه شامل على فقيدهم الذي ظل الأشد حضورا من بين السياسيين برغم غيابه الطويل، وشفّت ملامحه حتى غدا إلى الرمز أقرب منه إلى الشخص المختلَف معه وحوله وعليه.
ذلك أن العميد الذي أمضى عمره في السياسة ظل أقرب ما يكون إلى »الهادي«، ولم يكلّسه الاحتراف، ولم يفسده السعي إلى السلطة التي عرفها قليلاً جداً وعاداها معظم عمره، ومع ذلك يمكن اعتباره أشهر الوزراء في تاريخ لبنان.
.. وظل نظيف الكف، نزيهاً في التعبير عن مواقفه، يقول ما هو مقتنع به وإن لم يعجب الآخرين، ولذا كانوا يُقبلون على محاورته لاطمئنانهم إلى أن لا غرض له ولا مصلحة، وإنما هي قناعاته التي يستحيل تغييرها لأنه كان »عنيداً« بقدر ما كان »عميداً« ثابتاً لحزبه وأكثر.
من هنا فقد اختلف مع أبيه إميل إده حين قبل أن يعيّنه رجال الانتداب الفرنسي رئيساً للجمهورية الوليد استقلالها، في 11 تشرين الثاني 1943، بعد خلع الرئيس الشرعي بشارة الخوري واعتقاله مع شريكه الأساسي رياض الصلح ورفاقهما أعضاء الحكومة الاستقلالية الأولى.
وكان منذ نشأته الأولى وحتى يومه الأخير ولإيمانه بالنظام الديموقراطي البرلماني، ضد توغل العسكر في العمل السياسي، وقاتل بكل جهده دور المخابرات في المحليات ملحاً على ضرورة حصر جهدها في إطار الأمن القومي والابتعاد عن الانتخابيات والتعيينات، واستيلاد المجالس النيابية وتشكيل الحكومات… ولعل ذلك ما أوصله إلى ارتكاب غلطة سياسية ستكون لها في ما بعد آثار مدمرة حين شارك أهل التطرف في إقامة »الحلف الثلاثي« في العام 1968 بذريعة منع الشهابية من العودة إلى الحكم.
وبقدر ما كان صافي المارونية فقد كان ضد التعصب، ووقف بشجاعة مشهودة ضد تلك الموجات من التطرف المسيحي التي شهدتها البلاد عشية انفجار الحرب الأهلية، والتي ظلت تتوالد أو تتناسخ من كتائب »بطرس الأكبر« كما كان يسمي الشيخ بيار الجميل إلى »قوات« نجله بشير، الى »المحرر« بالتدمير ميشال عون… ولم تردعه عن الاعتراض، وبالصوت العالي، محاولات الاغتيال التي تكررت والتي لم يرتفع رصاصها عن مستوى خصره.
واستطراداً فهو كان وبقي ضد الميليشيات وضد حملة السلاح أو المعبّرين عن رأيهم بالسلاح، لأي طائفة انتموا.
وبرغم سيادة شريعة الغاب لفترة طويلة في لبنان فقد ظل ريمون إده »قانونياً« يجادل مجادلة العارف بالقوانين، المطالب باحترامها باعتبارها أساساً ثابتاً لدولة ضعيفة الموارد والقدرات مثل لبنان،
وبرغم ركاكة لغته العربية فقد كان برلمانيا ممتازا، وخطيبا له جمهوره، ربما لأنه يطلق أفكاره بسيطة، مجردة، ومشفوعة بروح النكتة أو المكايدة أو »التنمير« التي لم تفارقه حتى يومه الأخير.
وبرغم اختلافه العميق مع القيادة الفلسطينية حول تصرفها بلبنان، وحول سلوكيات رجالها وتنظيماتها المسلحة، إلا أنه ظل محاوراً لها، يحاول ترشيدها ونصحها، مع أنه كان المعارض الأعنف والأقوى لاتفاق القاهرة الذي عقد بينها وبين السلطة آنذاك، برعاية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (1969).
بالمقابل فإن موقفه المبدئي من إسرائيل لم يتبدل لحظة: فهو ضد مشروعها التوسعي، وضد اضطهادها للشعب الفلسطيني، وبالطبع ضد اجتياحها لبنان.. وهكذا كان بين القلة من السياسيين الذين جهروا برفضهم »لاتفاق الإذعان« الذي كاد يعقده أمين الجميل مع الإسرائيليين برعاية الإدارة الأميركية (الريغانية آنذاك) في 17 أيار 1983.. وكان يعلق على عودته إلى لبنان على تحقق شروط عديدة أولها جلاء الاحتلال الإسرائيلي عنه.
كان الكثير من اللبنانيين، لا سيما في زمن الصمت بالخوف من السلاح، يرون في ريمون إده الناطق باسمهم، المعبّر عن ضميرهم، وكان مما يزيد من حبهم له أنه كثيرا ما كان يقول ما لا يجرؤون على رفع صوتهم به من مواقف…
وليس مبالغة أن يقال إن ريمون إده عاش نجما طوال حياته، هنا في بيروت كما في منفاه الاختياري بباريس، وظل حتى يومه الأخير أعظم حضورا من بين أصحاب الألقاب والمناصب وورثة الجاه والمال والقائمين بالأمر.
لقد أنجب البيت الذي ستقفل أبوابه، اليوم في بيروت، على أحزانه، ثلاثة من البارزين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية: إميل ثم ريمون وبيار.. ولم تكن الوراثة وحدها الطريق.
اليوم، وإذ يعود ريمون إده الى بيروت في كفن، سيفتقد لبنان هذا الصوت الصارخ في البرية، الذي كان كبيرا على الكبار، خصما مع من يراه جديرا بالخصومة، وقريبا من هموم المواطن العادي، لا سيما همّ الحرية.
لقد خسر لبنان كبيرا من القلة من رجالاته المحترمين.
وسيفتقده غداً الذين طالما اختلفوا معه ربما أكثر من الذين كانوا يتهيّبون الاختلاف أو الافتراق عنه.
رحم الله ريمون إده العميد العنيد، الذي ارتقى في ضمير الناس إلى مستوى الرمز… حتى في ظل الاختلاف معه على الكثير من الأساسيات.