غيَّب الموت الأستاذ طلال سلمان أحد أعلام الصحافة العربية، وأذكاهم وأقدرهم. انشغل طَوالَ حياته بالقضايا العربية في فلسطين وسوريا ولبنان و مصر وبغداد، حاملًا بين جوانحه الفكرة العربية في استنادها إلى الشعور القومي والمبدأ الديمقراطي.
وقف ضد الطائفية اللبنانية، محذِّرًا من تداعياتها الكارثية على الوعي والثقافة في المجتمع، وفتح جريدته “السفير- صوت الذين لا صوت لهم” لكل القوى والتيارات الوطنية والتقدمية، وظلَّ قريبًا من كل التيارات والأجيال، حتى إنه سارع إلى تلبية دعوة أتته من مجموعة من شعراء قصيدة النثر اللبنانيين الشباب للاحتفال معه بعيد ميلاد جريدة السفير في “حانة جدل بيزنطي” الشهيرة في بيروت، ذهب إليهم محاورًا ومساجلًا وسخيًّا في مودته وظُرفه؛ فهو ابن نكتة وقفشة وطُرفة ونادرة، يحفظ الكثير من شعرنا العربي القديم والحديث.
ظلَّ على مسافة آمنة وغير آمنة من النظاميْن السوري والليبي، ولوجودهما المؤثر على الساحة اللبنانية، وبسبب فلتان السلاح وصراعات الأحزاب والطوائف والمذاهب، وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية وضرورة تحريرها من النهر إلى البحر ودعمه للمقاومة اللبنانية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، تعرَّض في 14 من تموز/يوليو 1984، لمحاولة اغتيال أمام منزله في رأس بيروت فجرًا تركت ندوبًا في وجهه وصدره، وكانت قد سبقتها محاولات لتفجير منزله، وتفجير مطابع “السفير” في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1980.
كان مثقفًا نقديًّا يربط أسئلة الحياة بأسئلة التحرُّر الإنساني والاجتماعي، ساعيًا إلى مصالحة الفكر القومي العربي مع الخيار الديمقراطي دربًا صحيحًا لتحقيق الوحدة العربية، مؤمنًا بأن إسرائيل هي العدو الرئيس للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية قاطبة، وهو عدو سياسي وعسكري وثقافي واجتماعي، ووجودها هو الخطر الأساس المباشر الذي يُهدِّد الفلسطينيين والعرب على جميع الصُّعد.
لهذا وقف بعناد ثوري أصيل ضد كل المفاوضات والتسويات السياسية التي وأدت المشروع الوطني الفلسطيني بدءًا من كامب ديفيد، مرورًا بأوسلو، وصولًا إلى وادي عربة؛ مما أدَّى إلى حكم ذاتي منقوص ومشوَّه، من دون المسِّ بالتوسُّع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني.
لا أنسى لمسته الإنسانية البديعة يومَ تكفَّل بعلاج الأستاذ محمد دكروب الناقد والمناضل الشيوعي على حسابه بعد أن عجز الرجل عن الوفاء به، وهذا ليس بغريب على قامة وطنية كبيرة مثله.
غير أنه اضطُرَّ آسفًا إلى إغلاق جريدة “السفير” في الرابع من كانون الثاني/يناير 2017 بسبب تعثره في الحفاظ على مصادره التمويلية التي كانت تؤمِّن له في السابق استمرارها؛ ما شكَّل ضربة قاتلة لإعلام وطني ملتزم.
بعد إغلاق السفير، بقيَ طلال سلمان يكتب عبر موقع دعاه باسم “على الطريق”، الذي كان عنوان زاويته الأسبوعية في الجريدة.
له مؤلفات عدة بينها: “مع فتح والفدائيين”، و”إلى أميرة اسمها بيروت”، و”سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق”، و”هوامش في الثقافة والأدب والحب”، وغيرها…
بَيْدَ أنني لا أنسى كلما هاتفتُ صديقتي الغالية التي رحلت قبل الأوان عناية جابر أو صديقي الرائع عباس بيضون أمدَّ الله في عمره، جاءني صوت موسيقارنا الكبير محمد عبد الوهَّاب مصافحًا أذني عبر هاتف السفير وهو يشدو بأغنية علي محمود طه “أخي جاوز الظالمون المدى/ فحقَّ الجهاد وحقَّ الفدا”؛ فأحسُّ من فوري بأنني مدعوٌّ على وجه الاستعجال لحمل السلاح والتوجُّه إلى أقرب ميدان قتال! لكنها اقتناعات طلال سلمان القومية العروبية الغلَّابة.
كان كثير التردد على مصر التي حفظ لها دورها الناصري على الساحتيْن الدولية والإقليمية، وحافظ فيها على علاقاته الوثيقة بالأستاذ محمد حسنين هيكل، وبالمفكر الكبير إبراهيم عامر الذي شهدت جريدة السفير صولاته وجولاته، وبصديقه اللدود مصطفى الحسيني، وأصفيائه: مصطفى نبيل وأمين رضوان وعلاء الديب وبهجت عثمان ومحيي اللباد رحمهم الله جميعًا، وجلساتهم الممتعة وهي تتجوَّل وتُحلِّق في سماوات الأدب والفن والسياسة.
مات طلال سلمان، لكن دروسه الوطنية والقومية، ومسيرته المهنية المشرِّفة لن تغيب عنَّا.
مجلة الهدف