لا مجال للزهو والتفاخر بهذا الاهتمام الدولي غير المسبوق الذي يحظى به لبنان، والمسيحيون فيه بل الموارنة على وجه التحديد، هذه الأيام، ولمناسبة الانتخابات الرئاسية التي يجتهد المجتهدون في تعظيم أهميتها حتى لتتبدى وكأنها واحدة من أخطر الأزمات الكونية.
ونفترض أن البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، الذي خبر الحياة طويلاً وعلّمته التجارب التي عاشها، ومُرّها أكثر من حلوها، لن يرى في تزاحم الموفدين الدوليين على درج بكركي دليلاً على العافية والاعتراف بخطورة الدور الماروني في السياسات الدولية…
على الأرجح أن البطريرك الحكيم سيشعر مع كل موفد جديد بمزيد من القلق، وكلما ارتفعت مرتبة الزائر، من سفير إلى وزير، ومن مبعوث رئاسي إلى مبعوث ملكي، فإن الإحساس بالخطر على مصير لبنان أساساً، ومن ضمنه مصير المسيحيين، سيتعاظم، إذ أن أمثال هؤلاء لم يأتوا من قبل ليستمعوا إلى رأي من مجد لبنان أعطي له ، ولا هم كانوا يتوقفون طويلاً عند صوت بكركي وهم ينصِّبون الرؤساء عبر صفقات تجري بعيداً عنها وعنه… بل إنهم حين سألوه مرة كادوا يحمّلونه جزءاً من المسؤولية عن الحرب الأهلية أو الفوضى كما أسموها، في حين كان بشخصه الضحية الأولى لها..
أما أن يأتي الأمين العام للأمم المتحدة، بجلال قدره، إلى لبنان ليدلي ب صوته في المعركة الرئاسية، ولتكون زيارة بكركي ولقاء البطريرك الحكيم أول بند في جدول أعماله، فإن ذلك يفرض إعادة نظر في أسباب هذا الاهتمام الاستثنائي باللبنانيين عموماً وبجمهوريتهم الصغيرة، وبدور المسيحيين فيها، وتحت عنوان الرئيس الماروني .
إن البطريرك الذي لا يشيخ لم يتعوّد مثل هذا الاهتمام، أبداً، من قبل، وهو ليس ساذجاً ليصدق أن مارونية الرئاسة تستحق مثل هذا الجهد الدولي، فضلاً عن أن لبنان كله طالما عصفت به رياح التصادم الإقليمي والدولي وتسبّبت في تفجّرات اتخذت شكل الحرب الأهلية ولم تحظ بكركي بمثل هذه الزيارات الخارقة لأي عرف أو بروتوكول معتمد لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة في الأحوال العادية أو بالأحرى الطبيعية.
ليس منطقياً أن تشغل رئاسة هذه الجمهورية الصغيرة دول العالم جميعاً، فيتقاطر وزراؤها فرادى وجماعات، ويتفرّغ عدد من كبراء الدنيا ومقرّري المصائر الكونية، يتقدمهم الرئيس الأميركي جورج بوش، لكي يقودوا اللبنانيين إلى التوافق على رئيس ماروني جديد للجمهورية المتهالكة، في مؤسساتها واقتصادها واجتماعها.
ما السر في هذا الاهتمام، وفي هذه الزيارات المتوالية لمسؤولين كبار بعضهم لم يسمع بلبنان من قبل، إلا عبر الحروب الإسرائيلية، لا سيما حرب تموز ,2006 ومعظمهم لم يكن يعرف ما هي طائفة رئيس الجمهورية، وثمة بينهم من لا يعرف الكثير عن تاريخ الموارنة كطائفة مميزة باستقلاليتها اللاهوتية.
لقد دفع اللبنانيون من دمائهم ثمن معرفتهم بمواقف الدول منهم، وهي التي تكشّفت صريحة وبلا قناع خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان العام الماضي، تستوي في ذلك الدول العربية مع الدول الغربية. لقد اجتمع الكل على تحريض إسرائيل على المضي في الحرب حتى النهاية، بالقضاء على المقاومة، ممثلة ب حزب الله .
صحيح أن الإدارة الأميركية تحمّلت علناً، وعبر وزيرة خارجيتها، مسؤولية إطالة أمد الحرب، لكن دولاً أخرى كثيرة وقفت مع هذه الإدارة لتعطيل صدور قرار طبيعي عن مجلس الأمن في الوقت الطبيعي لمثل هذا القرار.. ثم منعت تعديل النص الخبيث الذي صاغه المندوبان الأميركي والفرنسي، والذي خلا ولأول مرة من القول بوقف إطلاق النار، حتى بعد 33 يوماً من التدمير المنهجي لأسباب العمران في لبنان، فضلاً عن مجازر الأطفال والنساء والعجائز، وهدم البيوت على أهلها.
لكن الصحيح أيضاً أن هذه الدول لم تهتم يومها بمصير المسيحيين، كما تهتم اليوم، ولم تعبأ بآثار تلك الحرب المدمرة على لبنان كله، بدولته والموقع الممتاز للماروني في رئاستها.
فماذا استجدّ حتى انقلب عدم الاكتراث إلى اهتمام غير مسبوق، وحتى ترك كبار المسؤولين في العالم شؤونهم الكثيرة والخطيرة، والتفتوا إلى لبنان، وإلى مصير المسيحيين، وتراكضوا ليحموا موقع الرئيس الماروني، في حين أن أحداً من اللبنانيين، بتلاوينهم الطائفية والسياسية، كافة لم يطرح للنقاش مارونية الرئيس أو موقع الموارنة في النظام، أو مصير المسيحيين بالتحديد، بل المطروح هو مصير لبنان بشعبه جميعاً، ودولته بطبيعة الحال، إذا استحال لا سمح الله التوافق، وتعذر إجراء الانتخابات الرئاسية.
الاهتمام بإسرائيل وأمنها واستقرارها هو وحده ما يفسّر هذا الحشد الدولي الذي يتزاحم على درج بكركي، تحت عنوان مصير المسيحيين .
مع ذلك فليس في لبنان من يعترض على مثل هذا الاهتمام الذي ما كان ليتجلى باهراً كما نشهد لولا المقاومة التي حرمت إسرائيل من النصر قبل خمسة عشر شهراً، والتي كانت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ومن بينهم المسيحيون والموارنة تحديداً، بين من احتضن الذين هجّرهم القتل الإسرائيلي من مدنهم وقراهم المدمرة، وبين من ناصر المقاومة في صمودها، وإن كان له اعتراض أو نقد على عملية أسر الجنديين الإسرائيليين التي نُسبت إليها نتائج لا تقوى على حملها..
ليس الموارنة غير سائر اللبنانيين، لا في العين الأميركية ولا في العين الأوروبية، ولا حتى في العين الإسرائيلية.
إن اللبنانيين موحَّدون، برغم خلافاتهم الداخلية، حول موقع الماروني على رأس الدولة.
وأهلاً بالزائرين الكرام جميعاً طالما أنهم أتوا لتعزيز هذه الوحدة، وبالتالي السلم الأهلي، بالرئيس الماروني الذي يفترض أن ينتخبه العالم مع اللبنانيين يوم الأربعاء المقبل.