في »النظام القديم« كانت الانتخابات النيابية هي ساحة استعراض النفوذ لرئيس الجمهورية، أو هي »مجاله الحيوي«: ينزل إلى غمارها فيخوضها بكل ما ملكت يمينه من سلطة (وأجهزة) ومنافع ونفوذ يمكنه أن يعطِّل أو ييسِّر الأمور أمام مصالح مَن يراهم في موقع »الحلفاء« أو يضطر إلى »شرائهم« لضمان الأكثرية في المجلس الجديد.
فالأكثرية هي الطريق إلى التفرد باختيار حليفه الثابت في رئاسة المجلس النيابي، ثم إنها أداة التحكم بالرئيس الثالث المتحرك في رئاسة الحكومة.
بعد الطائف والإصلاحات الدستورية اختلف الأمر بما يتناسب مع طبيعتها، نظريا، على الأقل: خف الوهج الخاص بالرئاسة الأولى، واستقرت حال الرئاسة الثانية التي باتت تمتد طوال عمر المجلس، بينما تزايدت أهمية الرئاسة الثالثة، وارتفعت الأصوات تنادي بضرورة إنهاء وضعها الشاذ »كمتحرك بين ثابتين«، فكانت بدعة »الترويكا« التي كرست الموقع الممتاز للطوائف الكبرى الثلاث على رأس السلطة، على حساب »المؤسسات«، وإن كانت فتحت الباب لصراع لا يهدأ إلا ليحتدم مجددا حول هوية »المتقدم بين متساوين«!
مع وصول العماد إميل لحود إلى الرئاسة الأولى، وفي ظل حملات التشهير اليومية بالترويكا، وفي ظل ما سُمي »الإحباط المسيحي« وما تبدى من مظاهر ضعف المشاركة المسيحية في القرار، كان المسرح معداً لتعديلات ضمنية أو واقعية تعيد صياغة التوازن على القمة، ودائما تحت الرعاية السورية، بما يعزز رئاسة الجمهورية، ولو على حساب الرئاستين الشريكتين، لا سيما رئاسة الحكومة باعتبارها »السلطة التنفيذية«.
وبقدر ما دخل العماد لحود القصر الجمهوري كبيراً فقد خرج رفيق الحريري من رئاسة الحكومة كبيراً بسبب اعتراضه العلني على »خرق الدستور« وإضعاف منصب رئاسة مجلس الوزراء، بكل ما يمكن أن يثيره مثل هذا الاعتراض من حساسيات طائفية ومذهبية، تتبدى الآن في أكمل تجلياتها عبر المعركة الانتخابية عموما، وفي العاصمة بيروت على وجه الخصوص.
ومع أن تجربة »الدخول« و»الخروج« أثبتت بما لا يترك مجالاً للشك أن »الأكثرية النيابية« متحركة، ولا تلتزم موقفا مبدئيا، فلا هي »حزبية« ولا هي »عقائدية«، فإن تلك التجربة بالذات تسببت في خلق جو أزمة ما زالت تجر ذيولها حتى اليوم حتى ليصعب تكرارها…
قد يكون لرئيس الجمهورية، عرفاً، ومن باب حماية الموقع وتعزيزه، رأيه في شخص رئيس الحكومة الأولى في »عهده«، ولقد ثبت أن هذا الرأي يجب أن يراعي بل أن يأخذ في الاعتبار موقف الأكثرية النيابية وإلا تسبّب في أزمة دستورية، سرعان ما تنزل »الى الشارع« وتتخذ أبعاداً طائفية ومذهبية تؤذي العهد والحكم ومؤسساته جميعا، بدءاً بالرئيس الأول وانتهاء بالقيمة الفعلية للمجلس النيابي ودوره في حماية النظام الديموقراطي فضلاً عن موقع رئاسة الحكومة ذاتها.
ولعل الرئيس لحود، وفي ضوء دروس تجربة الحكومة الأولى، يشدد على ضرورة إرجاء الكلام في »الحكومة الثانية« إلى ما بعد ظهور نتائج »المعركة الانتخابية« واتضاح أحجام الكتل والتيارات و… الأشخاص.
السؤال: هل ستكون في المجلس النيابي الجديد أكثرية مطلقة لأي من الرؤساء الثلاثة تمكِّن أياً منهم من التفرد بالقرار؟!
الجواب البديهي: لا… بل ستكون ثمة مجموعة من »الكتل« القابلة للتقارب والتباعد والتكامل والانفراط وفق مقتضيات الحال، والتوازن الضروري على قمة السلطة.
الطريف أن ثمة من باشر الكلام الآن عن »الثلث المعطِّل« في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء، بديلاً من »الأكثرية«، ملمحاً أو مغرياً الرئيس الأول باللجوء إلى مثل هذا السلاح وهو لما يكمل السنة الثانية من عهده.
وهذا الوضع، سيكون مدخلاً الى سلسلة من الأزمات التي من شأنها أن تشل الحكم وأن تبعثر قواه وتعطل دوره المأمول والضروري في التصدي للأزمة الاقتصادية التي باتت تشكل خطرا داهما على الاستقرار، خصوصا أنها ستتبدى مع نهاية هذا العام، وعند إعداد الموازنة الجديدة، في حجمها الكارثي المخيف الذي يعيش اللبنانيون ضائقتهم المعيشية في ظله منذ حين.
إن المناخ غير الصحي الذي يرافق المعركة الانتخابية والذي يبدو فيه الحكم طرفا، عبر الحكومة أو عبر الأجهزة أو عبر تكاثر الناطقين باسم القصر، سيعكس نفسه ليس فقط على نتائج الانتخابات، بل أساسا على »اللعبة الديموقراطية« التي يُفترض أن تمارَس في ضوء معطياتها الفعلية.
فرئيس الجمهورية ليس طرفا في الانتخابات ولا يجوز أن يكون: ليس له مرشح أو مرشحون، وليست له لائحة، وليس ثمة بالمقابل لوائح مضادة له أو مرشحون مخاصمون.
إنه »المرجع الأخير«. إنه القيِّم على سلامة النظام والحارس الأمين للدستور.
قدر »الأول« أن يتجرد من عواطفه، وأن يتنزه عن الغرض والهوى، وألا يكون طرفا في أي خصومة أو منافسة.
ذلك أن ليس بعد الرئاسة الأولى أو فوقها منصب أعلى أو منزلة أرفع. وعليه فإن »المرجع الأخير« يعطي ولا يأخذ… إذ يعتبر الناس أنهم قد أعطوه فعلاً أسمى ما يملكون، فرفعوه إلى المقام الأعلى وشرَّفوه برئاستهم.
ثم ان رصيده، متى نجح، سيكون كبيرا بحيث تفيد منه أجيال.
وعليه فإن »انسحاب« الرئاسة الأولى من مسرح المعركة الانتخابية يعطيها حرية حركة واسعة وضرورية مع المجلس الجديد، إذ لن يكون بين نوابه خصم أو عدو، ولن يكون اختيار »الأكثرية« إذا ما اختارت تحدياً له أو انتصاراً عليه.
وساقطة هي تلك الادعاءات التي تصوّر أن كرامة الرئاسة رهن بعدد النواب »الموالين«، أو أنها رهن بإلحاقه الهزيمة بهذا أو ذاك من المرشحين المحتملين لرئاسة الحكومة (واستطرادا لرئاسة المجلس).
وتجارب الرؤساء السابقين، بدءاً بالرئيس الأول لدولة الاستقلال، وانتهاء بالرئيس الأخير لجمهورية ما قبل الطائف، تشهد بأن الأكثريات المفبركة أو المصطنعة لم تنفع إلا في خلق أزمات سياسية حادة وصل بعضها إلى حد تفجير البلاد بالحرب الأهلية.
ان »الرئيس الأول«، على وجه الخصوص، ليس بعد تنصيبه ابن طائفته، وليس محتاجا إلى توكيد انتمائه إليها بتمكينها من احتكار السلطة في بلد تحكمه توازنات دقيقة بين أديانه وطوائفها ومذاهبها العديدة… والرئيس القوي بطائفته هو الضعيف وطنيا.
رئيس الجمهورية هو وحده حارس الدستور والنظام الديموقراطي، وهو وحده تحت القسَم الدستوري بوصفه مرجع اللبنانيين جميعا، لا يفرّق بينهم ولا يميّز لأنه »لجميعهم« طيلة مدة ولايته، وذلك أساس »التعاقد الوطني« معه.
والأمل في الرئيس إميل لحود، وهو ابن البيت الذي غلبت فيه الوطنية على الطائفية وغلبت فيه النزاهة على الغرض، ألاّ يسمع لهؤلاء الذين ينافقونه ويغرونه بأن يغادر الموقع السامي ليصير طرفا في زواريب المعارك الوهمية بين أطراف متشابهين لا مصلحة لأي منهم في فشل العهد لأن في ذلك فشلاً للبنان بدولته وشعبه جميعا.