قرنٌ مضى، والعرب مقيمون في المستحيل. أعظم انجازاتهم. مراكمة الفشل. بعد مئة عام، صارت القارة العربية، مقيمة في الشتات والعبث ولبنان، برهن على انه وفيّ لأصوله الانحطاطية.
هذا الكلام، ليس تعسفياً. فاز الانحطاط ونُحرت الحداثة وقُتل روادها، وذهبت النضالات هباءً.
في مطلع القرن الفائت، وبعدما فازت فرنسا وبريطانيا في دحر “الرجل المريض”، أرستا الكيانات المبتدعة، و”وهبتا” كل كيان لأرومة او سلالة او طائفة (أو طوائف) وحذرتا الكيانات المبتدعة من المس بحدود الكيانات. فالوحدة ممنوعة، والقومية رجس، والاستقلال مرهون بالولاء لدول الغرب المهيمنة.
لم تكن الحرب الكونية أشد سوءاً من سكين التقسيم. حدود الكيانات، ألغام، انفجرت مراراً وما تزال. خلقوا كيانات متعادية. وهذا ما جعل الانتداب او الاستعمار، مطمئناً الى أن الحرية، ستكون الضحية المثالية، لأنظمة استبدادية وظلامية ومتخلفة، وأن الضحايا في ما بعد، يمكن قراءتهم من خلال المسارات العربية خلال مئة عام.
راهناً، تتظهر الصورة النهائية لمسار مئة عام: حروب الأخوة الاعداء، وعداوات الجيرة الإلزامية التي تفرضها الجغرافيا المسكونة بالخوف وشهوة العدوان. نظرة سريعة راهنة إلى النزاعات والحروب البينية: المغرب والجزائر، منذ أكثر من ستين عاماً، والعداء يستفحل. شهد البلدان حروباً لم تفضِ إلى حلول، ولكنها أرست عداوات وحدوداً مغلقة. ومن المغرب إلى المشرق، حروب متتالية. الخليج المتصالح، بات متعادياً. دماء تسابق النفط. دول الخليج “المتصالحة” باتت متعادية. خلافات حدودية. مشاريع استتباع وهيمنة للكيان الاكبر. عائلات وسلالات حاكمة منذ أكثر من 60 عاماً، وبعضها منذ قرن. هل تروى سلسلة الحروب التي خيضت بين الاشقاء “القوميين” في العراق وسوريا؟ ثم، وهنا الطامة الاستراتيجية الكبرى، فلسطين. حذفوا شعباً برمته. دعموا حركة عنصرية. زرعوا في الارض العربية، ما رفضوه في بلادهم. عداؤهم لليهود، (وهم غرب حضاري!) نفثوه في وجوه العرب. لم يندم الغرب ابداً. وقف دائماً إلى جانب العنصرية الاسرائيلية، التي شتتت شعباً، وانجبت حروباً متتالية، ولم تتورع دول الغرب في الوقوف خلف الاحتلال وتوسيعه.
هذه أمور مبتوتة، واقعية، وصادقة. وعليه يلزم أن نعيد النظر في فهمنا للغرب. الغرب الذي يبدع في مكان، ويدمر في مكان آخر. ليس صعباً ابداً أن نميز بين الشعارات العربية الجميلة والمثالية. وسلوك الغرب المشين، ضد الحرية والعدالة والديموقراطية والتقدم والتنمية والاستقلال.
اسئلة كثيرة تُثار. السؤال الاول: لماذا يتقدم الغرب واشباهه، ويتراجع العالم الثالث والرابع؟ متى كانت دول الغرب تهتم بالتحوّل الديموقراطي الممكن؟ لماذا وقفت وشجعت الانقلابات العسكرية وتعاملت معها؟ كيف تبرر انحيازها الدائم والداعم لإسرائيل؟ المعادلة واضحة: الغرب مع اسرائيل مهما فعلت، ومع انظمة العرب ترغيباً وترهيباً.. وبعد مئة عام، صارت “اسرائيل” قبلة العرب، والممانعون شياطين العالم.
طبعاً، الاذكياء والمثقفون، يعرفون أن الشرعة الدولية لحقوق الانسان، سلاح بيد الغرب يغفو عنه إذا كان له مصلحة في ذلك، ويستيقظ دفاعاً عنه إذا اعترضت سلطة وطنية على سياسة الغرب. الغرب هذا، دعم أعتى الدكتاتوريات. كان الظن أن الولايات المتحدة شجعت الدكتاتوريات في اميركا اللاتينية. لكنها كانت داعمة لعدد منها في الفيافي العربية. خرَّب الغرب الدول غير المنحازة للغرب، او التي تقربت من الاتحاد السوفياتي. ولنا أن نسأل، لماذا لم يُصَب كيان من كيانات الممالك والامارات والسلطنة بسوء. كانوا ضد جمال عبد الناصر على طول. حاربوه مراراً. العدوان الثلاثي 1956. حرب حزيران 1967، حرب تشرين 1973. كانت المساعدات العسكرية تتدفق من مصانع الاسلحة في اميركا إلى جبهات القتال فوراً.
سجل الغرب حافل بالعداء، للديموقراطية في البلاد العربية. لا مشكلة للغرب. كل الغرب، في أن يتعامل ويدعم ويحتضن ويغفر دولاً وكيانات، لا عدل فيها ولا حرية ولا ديموقراطية ولا حقوق انسان.
هذا الغرب منافق، منافق، منافق. دليل واحد يكفي كيف سكت الغرب وتناسى ثم أغدق دعمه لأنظمة ارتكبت الشناعات؟ كيف تعاملوا مع اغتيال جمال الخاشقجي.
هل نسيتم ذلك؟ هل نسيتم أن اميركا تخوض بعصاها وعقوباتها حملات ضغط على كيانات لتطبع مع اسرائيل العدوانية دائماً.
لنقلب الصفحة.
المسؤولية في خلال قرن مطحون وبائس، لا تقع على الغرب فقط. من تولى السلطة في الكيانات، فجَّر التناقضات البينية بأسباب ذات طابع سلطوي فقط. حروب الاخوة الاعداء كثيرة. وهذه الحروب كانت بين جيران وبين الحزب الواحد.
الرد القومي كان طبيعياً وحتمياً. هذا التيار ازدهر بعد ثورة الضباط الاحرار في مصر. اجتاحت القومية العربية شرائح واسعة من شعب مزّقته الكيانية وعصفت به السلطوية وازدهر في ظلها الفساد والتبعية والاتكاء على ولاء الغرب “الحامي” . شيء جديد ولد، من رحم الواقع وفكر الوحدة وإرادة الدولة القوية. من رحم معركة البقاء ورد التحدي الاسرائيلي والغربي. (حرب السويس 1956 نموذج عدواني غربي اسرائيلي). بعدها تمكن البعث (القومي العربي) من بلوغ السلطة عبر انقلابات عسكرية في سوريا والعراق… هذا ما حصل في ليبيا واليمن والسودان ولكن للأسف، تغلبت الكيانية على القومية، ودخل الاشقاء في حروب سياسية وأحيانا في حروب واغتيالات. انتهت في ما بعد كل القومية العربية، إلى سلطة مؤيدة للقائد وورثته من اولاده… تشبه القوميون، بالقبائل العربية، وانتهى بهم الامر، إلى حروب اهلية.
الخريطة العربية راهنا، كارثة تولد كوارث. فلسطين نأت عن الجغرافيا العربية. صارت محتضنة من إيران ومن معها من الحركات الشيعية. اما الجدار السني، فقد أصبح متخندقاً في الامارات والممالك فقط.
ماتت الديموقراطية. ماتت القضايا. نُحرت التطلعات. أُقفلت ابواب الحرية. الدكتاتوريات الملكية والاميركية، احتلت الشاشات والاعلام الاميركي المكتوب. ما تقوله في الجزيرة، يردد في كل العواصم الجاثية على ركبها امام العتو الاميركي -العربي – الاسرائيلي.
واخيراً هل كان لبنان ضمن هذه القافلة؟
ولد لبنان من نصفين اثنين: واحد مسيحي وآخر اسلامي. كيان برأسين. وكل رأس ينام على وسادة. وسادة الغرب للمسيحيين ووسادة الشرق العربي الإسلامي للسنة. كان لبنان ينشطر، عندما تشتد النزاعات بين الاشقاء العرب الاشقياء. لم يتوحد لبنان الا في ازمنة ضئيلة، او عندما كانت تخفت الصراعات البينية. وكان ما كان على مدار السنوات من حروب اهلية مستدامة، وصراعات سياسية، تشل الدولة وتهدد الكيان. جدول الذكريات حافل بالقتل والتهجير والتغيير الديموغرافي. الكانتونات اليوم، تنتظر الخطوة الأولى: اللامركزية الادارية، ذات البعد السياسي، وليس التنموي.
فازت الطائفية في لبنان فوزاً كاسحاً. وقد لاقاها في ما بعد اندلاع الربيع العربي، فوز الشلل والعصابات الدينية القادمة من قبل التاريخ. همجية ووحشية واستئصالية. سياسة عهد الكهوف أكثر رحمة. وقعت الكيانات أسيرة صراع مذهبي، يشرط الخريطة العربية إلى فسطاطين. الفسطاط السني والفسطاط الشيعي. تُرى، أي ضياع يعيشه المسيحي في لبنان، بعدما تحققت النبؤة السوداء: المسيحيون في الشرق إلى انقراض. العراق نموذجاً. سوريا كذلك ولبنان يتساءل عن المصير الوطني والطائفي. لبنان موجز كل الصراعات العربية، والصراع العربي – الاسرائيلي، مع ضرورة التدقيق بالعبارة، بحيث يكون الصراع حقيقياً، بين القوة الشيعية، وبين اسرائيل. “حماس” لم تعد مدعومة إلا من إيران.
هذا المسار الإنحداري يسألنا: ماذا بعد؟
المستقبل كابوس. لا شفاء لهذه المنطقة العربية، ولبنان سيعيش على الحافة. مواكباً عذاباته وجوعه وافلاسه وعوزه. لا افق للعرب امام الغرب. والعتمة الكالحة امام اللبنانيين.
هذا ما جناه الغرب علينا. وهذا ما صنعته أيدي الدكتاتوريات العربية. الدكتاتوريات الاميرية والملكية والعسكرية.