لوهلة، يبدو وكأن النقاش الذي انفتح على مصراعيه في لبنان، وبعد الانتخابات النيابية مباشرة، يدور منفلتاً من أي قيد، ومطلقاً بمعنى أنه لا يطلب إجابة أو إجابات محددة، بل يريد »السائل« أو »المتسائل« وهو عارف بالجواب أن يثبت حضوره، وأن ينتزع لنفسه دوراً، باعتبار ما سيكون!
خلال أسابيع قليلة، وبالتحديد بعد انتصار لبنان المقاوم بالتحرير وإجلاء المحتل الإسرائيلي عن أرضه، ثم بعد الرحيل الصاعق للرئيس السوري حافظ الأسد، الذي كانت بيده وإلى حد كبير مفاتيح السلام والحرب، وأساسا مفتاح الاستقرار في هذا المشرق العربي عموماً، وفي لبنان خصوصاً، شهدنا حركة نقل وانتقال واسعة النطاق، وتبدلاً في المواقف والمواقع مذهلاً في سرعته، حتى لقد تبدى وكأننا أمام انقلاب شامل، معد سلفاً ولم يكن ينقصه إلا ساعة الصفر.
صارت الانتخابات التي جاءت بنتائج مقبولة قياساً إلى سابقتيها، إذ تناقصت أعداد المقاطعين، وانخرط في العملية العديد من المستنكفين، وفاز من كانت »الحرب« عليهم مفتوحة وبلا هوادة… ومع ذلك ارتفعت الأصوات بالشكوى من الافتئات والتغييب وشارك فيها »ناجحون« بامتياز!
صارت المقاومة الباسلة »مشكلة« للوطن الذي حرَّرت أرضه بدماء مجاهديها وأهاليهم الصابرين الصامدين الذين احترقوا في بيوتهم وماتوا مع أشجارهم واقفين…
تبدل نفاق »حزب الله« إلى استغراب لاستمراره، وسحبت من التداول قصائد الإكبار والتقدير لمجاهديه وقائده ليحل محلها الحديث عنه بوصفه »ميليشيا«، تشكل مصدر قلق لأهله الذين حرَّرهم، وبوصفه مانعا لمساعدات الدول المانحة، وحاجبا للسيادة والاستقلال لأنه يشكل حاجزا في وجه انتشار الجيش في الجنوب في مهمة غامضة ومستحيلة التنفيذ ولم تكن مطلباً ولا هي كانت مهمة متاحة منذ إقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العام 1948 وحتى الاحتلال الإسرائيلي في العام 1978… وهي ما زالت »ممنوعة« بموجب اتفاق الهدنة حتى اليوم!
أما الوجود السوري فقد صار فجأة علة العلل ومصدر كل الأمراض التي يشكو منها لبنان واللبنانيون: هو سبب الأزمة الاقتصادية المتزايدة حدتها بحيث ضاقت سبل المعاش، وانسدت أبواب الرزق، واختفت فرص العمل، وبارت التجارة، وأفلست المصانع والمؤسسات والشركات المالية، ناهيك بكساد المحاصيل الزراعية نتيجة للمنافسة غير المشروعة.
اختلط حابل الناقدين بنابل المتذمرين وشارك »النواب« الذين جاءت بهم »المحادل« السورية مع المرشحين الذين لم تتسع لهم »البوسطات« السورية في التشكي من التدخل الذي يمس السيادة..
همس »ناصحون« في أذن مسؤولين قلقين: لقد مات الكبير! أبعد عنك الحزن وتمتع بالحرية!
همس وزراء لمستشارين، وهتف مستشارون للمعنيين ان »القرار الوطني« معطل بالتدخل السوري، وأبلغت »مصادر مطلعة« جهات »إعلامية« أن سبب الأزمة السياسية الراهنة والتي ستبلغ ذروتها مع التكليف ثم مع تشكيل الحكومة الجديدة هو »رفض الضغط السوري لفرض مرشح معين لرئاسة الحكومة وتشكيلة محددة لوزرائها«.
وهمس، بالمقابل، مستشارون لوزراء ووزراء لمن هم في موقع القرار، بأن هجوم الطوائف لا يرده إلا الدفاع من قلب الموقع الطائفي الممتاز.
همس سفراء لمسؤولين، وتبادل بعض المراجع »معلومات«، ثم جاءت الأجهزة أجنبية وعربية ببينات تفيد بأن »دمشق مشغولة بأحزانها وهمومها لبعض الوقت، وأن هذه هي الفرصة الممتازة لانتزاع القرار والتخلص من الضغط والتحرر من الهيمنة السورية«!
وكان لا بد من اللجوء إلى الطائفية لتمويه طبيعة الصراع المستولد حديثا من وقائع قديمة، وهكذا انفجر النقاش غير محدد في البداية ثم انتظم في سياق طائفي محدد بلغ ذروته بنداء مجلس المطارنة الموارنة وردود الفعل المتوالدة يوميا عليه.
* * *
أين الدولة من هذا كله؟! إلى أي حد تورطت بعض مراجعها في هذا »النقاش« الذي وجد لنفسه في النهاية موضوعه؟! ولماذا تبدو مرتبكة، وفي موقع دفاعي ضعيف في مواجهة هجوم الطوائفيين جميعاً، زمنيين وروحيين وبين بين؟!
وهل عدنا إلى اللعبة القديمة ذاتها: تطئيف السياسة، بطرح المطالب الطائفية المتضاربة بحيث تشحب صورة الدولة والحكم، ويسهل تناول سوريا، وكأنها مصدر الشرور جميعاً!
ألم نتعلّم من دروس تاريخنا الحديث، بعد، أنه بقدر ما تشحب صورة الدولة ويرتبك الحكم فيها، تنتعش الطوائفيات وتتبادل الدعم والإسناد فتتقدم مرجعياتها لتحاول فرض نفسها »محاورة« ومن ثم شريكة في القرار؟!
إن الطائفية فعل إرهاب مفتوح: ترهب الحاكم فتُلزمه بأن يؤكد »طوائفيته« فتسقط عنه هالة المرجع الأعلى والأخير، باعتباره في الموقف الأسمى من الانتساب لطرف أو الانحياز لآخر.
… أما إذا رفع نفسه فوق هذا كله، محتفظا بموقعه كحام للدستور ومرجع أسمى من المنازعات والخلافات على الحصص، فقد يُطعن في ولائه لطائفته ومن ثم للمرجعيات الطوائفية جميعا: لكل طائفة قادتها وزعماؤها ومنهم »الرؤساء«، فلماذا لا يكون »الرئيس« هو زعيمنا والقائد وضامن حقوق الطائفة؟!
لا يستطيع أن يكون رئيس كل اللبنانيين حامي الدستور من موقع زعامة الطائفة.
قلة من رؤساء الجمهورية حفروا أسماءهم في وجدان اللبنانيين، من خلال حفاظهم على الموقع الممتاز كمرجع أول فوق الانحياز وفوق الولاء الطائفي.
أما من ضعِف أو حاول استبدال الرئاسة بزعامة شعبية قوامها الهياج الطائفي فقد أخذ البلاد إلى الحرب الأهلية.
وليس لبنان بحاجة إلى المزيد من زعماء الطوائف.
إنه بحاجة إلى »رئيس لكل اللبنانيين« فوق الطوائف، فوق المنازعات والخلافات وحروب الحصص، وفوق »زعماء الطوائف« لأنه وحده لا يحتاج إلى تأكيد »شعبيته«، ولا هو يخاف على اندثارها، لأنه بشعبية أوسع وأشمل وعلى امتداد الوطن كله، وصولاً الى دمشق، رُفع إلى الموقع الأسمى، وكان على الجميع حكومة ونوابا ومرجعيات طائفية أن يثبت سلامة موقفه، وطنيا، عبر انتخاب هذا الآتي من تجربة ناجحة في تحويل الجيش من »شركة« تتقاذفها وتتناهبها وتستخدمها الطوائف إلى مؤسسة في خدمة الوطن.
الكلمة للرئيس إميل لحود، بعد، ليصير النقاش الطوائفي حوارا وطنيا، وحتى يستقيم الكلام عن دمشق ومعها.