طلال سلمان

قراءة في »الاحد فلسطيني«

… ومع ختام السنة الأولى لانتفاضة الأقصى كانت فلسطين تستعيد صورتها البهية الأولى: فإذا كل أبنائها لها، من أقصى الإرادة المقهورة بتزييف الهوية في داخل الداخل (1948) الى أقصى الأرض الأسيرة بالاحتلال المتمادي منذ 1967 وربما قبل ذلك بزمن طويل.
صار وحده الخبر: إن لم يفجر الفلسطيني دمه في عدوه، قتله الصمت والتجاهل والإهمال، بل والتشهير الدولي بنزعته الإرهابية حتى وهو يسقط اغتيالا أو نسفا أو قتلا مقصودا برصاص إرهاب دولة الاحتلال الاسرائيلي.
لا خبر عربيا إلا ما يسطره الدم الفلسطيني فوق أرضه المحروقة بمدافع الدبابات وصواريخ الطائرات والعبوات الناسفة للبيوت والعائلات والمصانع الصغيرة ومراكز قوات الأمن التي باتت هدفا سهلا للانتقام الرخيص.
صار وحده الخبر: إن هو لم يؤكد حضوره بموته تحولت قضيته الى سطور باهتة في بيان بلا معنى لمؤتمرات روتينية للكلمات المفرغة من مضمونها والتي تحاذر أن تخدش آذان العدو، ولا تنجح في الوصول الى آذان المتعاطف، فتتساقط على أعتاب البيت الأبيض، مكسورة ذليلة، لا تفيد إلا في تبرئة القتلة من »دم هذا الصديق«… المزعج الذي كلما مات أكد »حضوره«، بقدر ما يؤكد »غيابهم«.
يوم أمس، مثلا، كاد يمر باهتا، مبللا بالرطوبة والسأم، لولا فورة الدم التي تفجرت تحت ضغط القهر والإذلال والاغتيال فأعادت استيلاد فلسطين بصورتها الأصلية: من النهر الى البحر، ومن أعلى الجليل حتى أدنى غزة، ومن سفوح الجولان السوري حتى البدايات الوهمية لسيناء المصرية.
} لبنانيا: كان أهالي الأرض التي تحررت بالمقاومة، أي بالدم أيضا، ينتظمون صفوفا طويلة أمام صناديق الاقتراع ليستعيدوا ميزة أخرى كان اغتالها ليل الاحتلال الاسرائيلي الطويل.
لم يكن للانتخابات البلدية والاختيارية من معنى الا التأكيد على أن الاحتلال الاسرائيلي كان يعطل الحياة ويقتل الديموقراطية ويزرع الفتنة والموت، وإن جلاءه كان إسقاطا »للعابر في جملة عابرة« وعودة الى السياق الطبيعي لتاريخ هذه المنطقة وأهلها.
} في القاهرة: كان وزراء الخارجية العرب يستأنفون وقد اكتمل نصابهم هذه المرة العرض المتواصل لوجوه العجز الشامل، والشلل الفاضح في مواجهة المذبحة المستمرة، وقد أضاف الخليجيون منهم إلى النص التقليدي التعبير عن »الدهشة« من استمرار التجاهل الأميركي لحق الفلسطينيين في الحياة!
إذن، ما زال بوسع وزرائنا ان يصابوا بالدهشة. هذا يدل على انهم لم يفقدوا مشاعرهم جميعاً، حتى لو اصاب الخدر شعورهم القومي وكل ما له صلة بالكرامة.
} وإلى واشنطن كان يتوجه الملك الأردني عبد الله الثاني، رئيس القمة العربية (العادية) للقاء جورج بوش لعل وعسى… تنفع الفصاحة الهاشمية في تعويض السلاح المغيّب، مالاً كان أم جيوشاً أم مصالح حيوية واستراتيجية لامبراطور الكون في هذه الأرض التي لا يحميها أهلها فيأخذها ويأخذهم الأقوى!
} ومن مدينة دربان الأفريقية كان العرب المنقسمين على أنفسهم، الخائفين من الموقف، والغارقين في كيانياتهم التي تشابه »العنصرية« تجاه بعضهم بعضاً، والعاجزين عن مواجهة عدوهم على أرضهم، يعودون وهم يجرجرون اذيال الخيبة. فمن لم يحم حقه بسيفه أو بيده أو حتى بلسانه، أو حتى بقلبه، لا يمكن ان يقنع »المجتمع الدولي« بقضيته التي انكرها ثلاثاً قبل صياح الديك.
وكان من حق »يديعوت أحرنوت« ان تهلل لأن حالة الهستيريا التي اثارها العرب قد أدت غرضها فجاء البيان كما تريده إسرائيل بالضبط!
كيف يمكنهم انتزاع قرارات ضد الصهيونية وثلثهم معترف بدولتها »العنصرية«، وثلثهم الثاني يتمنى على إسرائيل ان تنساه فلا تحرجه فتخرجه، أما ثلثهم الثالث فمعطل بالرغبة الفلسطينية المعلنة في عدم احراج الأميركيين حتى لا يخرجوا فيسقط تقرير ميتشيل وتسحب توصيات تينيت من التداول ويكشف غطاء المخابرات المركزية الأميركية عن المنذورين للموت من الفلسطينيين!
… ولقد اطلت النذر المبشرة بالسوء عبر تصريحات مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي التي نددت، أمس، »بالعنف الاهوج ضد المدنيين الابرياء«، وأمرت بأن يتوقف فوراً!!
كأن الفلسطينيين الذين يُقتلون في مخيمات لجوئهم ليسوا مدنيين وليسوا ابرياء، وإلا لكانت ميّزتهم طائرات الاف 16 وطوافات الأباتشي الأميركية فحفظت لهم حياة القهر والذل الاسوأ من الموت!
* * *
صار وحده الخبر: لا خبر عربيا إلا ما يسطره الدم الفلسطيني.
وفي أحداث »الأحد الفلسطيني« ما يتجاوز الأخبار الى إعادة تثبيت حقائق أساسية كان غيبها الهوان العربي والجبروت الاسرائيلي والنفاق الدولي.
}} من تلك الحقائق: ان الاستشهادي في نهاريا، والذي عمره من عمر النكبة (1948)، والذي افترضت اسرائيل أنها قد دجنته بهويتها، فأعادت خلقه »خارج فلسطينه«، ما زال فلسطينيا، وانه قابل للتفجر فيها وإسقاط كل أوهامها حول أسرألة الفلسطينيين.
}} … وان »الخط الأخضر« ليس إلا كذبة اسرائيلية تتهاوى أمام سيول الدم الفلسطيني المؤكدة لوحدة الأرض وأهلها، أصحابها وحماتها، بغض النظر عما اذا كانت »إقامتهم الإجبارية« قد فرضت عليهم أن يكونوا على هذا الجانب أو ذاك من خط الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال وأسند اليه دولته.. القوية!
}} … وان الخطوط التي رسمتها اسرائيل بالنار بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، تتهاوى أمام الانتماء الأصيل المؤكد نفسه بالدم لأبناء فلسطين الواحدة، المستعصية على التقسيم كما على الشطب والإلغاء.
}} … وان الاحتلال قد أسقط بضروب إذلاله، وبوحشيته، الحد الفاصل بين »المتدين« و»العلماني« من الفلسطينيين. فالفلسطيني بدمه لا بفكره بالنسبة للاحتلال، وهو غلة الموت، لا فرق بين المنتمي الى »حماس« والمتعاطف مع »الشعبية« أو مع »الديموقراطية«، ولا فرق بين »فتح« وبين »الجهاد الإسلامي«، ولا محايد أو بريء، فكل فلسطيني إرهابي الى أن يقتله الإرهاب الاسرائيلي.
}} … وان اسرائيل تحارب الفلسطيني كفلسطيني، وبغض النظر عن موقعه، سياسيا كان أم أمنيا أم حتى من العمال الذين يسوقهم الذل اليها لبناء المستعمرات الاستيطانية فوق »أملاكهم«: لا حصانة لأمين عام، أو لوزير، أو لضابط في شرطة السلطة، أو لمناضل، أو لفتى يقصد مدرسته أو لطفل في حضن أمه.
***
كان العجز قد حول شعار »من النهر الى البحر« الى نكتة سمجة.
ها هو الدم يؤكد الاحتمال، ويعطي دليلا على القدرة على الفعل، فالحصار يتهاوى، و»الفلسطينيات« تتوحد بالدم تحت ضغط الدولة التي لا تعيش إلا بالقتل وإلغاء الآخر.
عسى هذه الحقيقة تخرج الوزراء العرب من دهشتهم.. المدهشة!

Exit mobile version