ليست الانتخابات النيابية في الكويت، بتوقيتها وبموقعها على خريطة الصراع السياسي الداخلي بين اتجاهات متباينة و»حزبيات« متعارضة في هذه الإمارة الصغيرة بمساحتها وعدد سكانها، الغنية بمواردها الطبيعية وتجربتها العربية، ومن ثم الدولية، حدثاً محلياً لا يعني غير الكويتيين ولا ينعكس بنتائجه ودلالاتها إلا عليهم.
إن هذه الانتخابات ب»المفاجآت« المدوية التي حفلت بها، »حدث عربي« جلل، يستحق أن يتم التوقف أمام مقدماته التي كانت مقروءة، وأمام خاتمته غير المفرحة التي كانت متوقَّعة لدى أي متابع متبصّر قادر على الربط بين المقدمات والنتائج، عبر قراءة للتحولات التي شهدها »المجتمع الكويتي«، في السنوات الفاصلة بين الاجتياح العراقي للكويت (آب 1990) والاجتياح الأميركي للعراق، انطلاقاً من الكويت، قبل أربعة شهور إلا قليلاً (20 آذار 2003).
لكم هي شاسعة المسافة بين أول »مجلس أمة« منتخب في الكويت (1963) اثر استقلال هذه الإمارة التي اعتمدت نظاماً وراثياً يحصر رئاسة الدولة (الأمير) في الذكور من ذرية »مبارك الكبير«، وبين هذا المجلس الجديد الذي أنتجته الانتخابات يوم السبت الماضي 5 تموز 2003. لقد دار الفلك أربعين دورة بالتجربة السياسية الكويتية خلال هذه الأربعين سنة بأحداثها المبدّلة لمصائر الشعوب والكيانات السياسية في بلادنا.
تكفي الإشارة، بسرعة، إلى أن الكتلة العظمى في أول مجلس نيابي منتخب في الكويت المستقلة العام 1963، كانت لحركة القوميين العرب (بقيادة الدكتور أحمد الخطيب) التي كانت تشكّل قطب الرحى في الحياة السياسية الكويتية: من حالفها نجح ومن خاصمها سقط غير مأسوف عليه..
أما في الانتخابات الجديدة فيندر أن نجد بين الفائزين من يتحدر من صلب هذا التيار القومي، الذي لعب دوراً في تأسيس الكويت الدولة المستقلة، بوصفه ضمانة إضافية للتوجه العربي الذي ستلتزم به الإمارة الوليدة.
ومع تراجع »الفكرة العربية« و»الحركة القومية« خلال التجربة الطويلة والمريرة، بعد اجتياح صدام حسين الكويت، كانت الساحة السياسية تخلو أكثر فأكثر أمام تيارات إسلامية، بعضها مستورَد وبعضها مستولَد وبعضها مستوحد، وكذلك أمام هجمات »عشائرية« بعضها منظم وبعضها مرتجل وغالبها في خدمة »بيت الحكم«… وكانت هذه التيارات المتعارضة عقيدة تتلاقى في اللعبة السياسية المحلية على مواجهة ما تبقى من الحركة القومية التي تحولت إلى تيار ثم إلى منبر ديموقراطي، وتؤصل التوجهات الكيانية في الدولة الصغيرة التي »اندثرت« ذات نزوة لحاكم طاغية مكّنته الأقدار (؟) من التحكّم بشعب العراق العظيم فأخذ يقوده من مغامرة خاسرة إلى مقامرة قاتلة تحت شعارات قومية تُنسَب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
لقد خسرت العروبة في العراق، فكان منطقياً أن تخسر في الكويت، وكانت الخسارة في القطرين الشقيقين كارثة قومية، وها نحن أمام أولى ثمارها المرّة. أما دلالاتها الكاملة فأبعد مدى بما لا يقاس من نتائج انتخابات نيابية كانت نتائجها معروفة سلفاً لأي مراقب لتحولات الرأي العام في هذه الإمارة الطامحة دائماً إلى دور يتجاوز مساحتها، وهو الدور الذي كان الضحية الأولى لغزو صدام حسين ثم »للتحرير« الأميركي.
ذلك أن العروبة هي مصدر مشروعية الدور الكويتي، ومن حضورها العربي، بالمبادرة السياسية قبل المساعدات المالية، و»بنزاهتها« و»براءتها« من الطمع بالقيادة، كانت الكويت تحتل في الساحة السياسية العربية مساحة أوسع بكثير من »حقها« داخل التوازنات العربية الدقيقة.
فكويت السبعينيات والثمانينيات كانت بين العرب »الأخ الكريم« البريء من الغرض، باعتبار الطموح مشروعاً، أما مع الأميركيين في التسعينيات فقد صارت أشبه ب»اللاجئ السياسي« المكتوم الصوت الملجوم عن ممارسة أي دور.
لقد أخرج صدام حسين نظامه، وكاد يُخرج بلاده، من العروبة حين غزا الكويت في صيف 1990… بالمقابل فقد بات »تحرير« الكويت من صدام حسين المحتل باهظ الثمن إذ تبدّى وكأنه يعني خروج الكويت نفسها من العروبة… وليست »رمزية« حكاية أن كثيراً من الكويتيين كانوا يطلقون على أبنائهم في سنوات »قادسية صدام« اسم الرئيس العراقي، في حين أن العديد منهم أطلق على مواليدهم بعد »التحرير« اسم الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الأب).
وهكذا فإن العروبة قد خسرت فتراجعت، نتيجة اجتياح صدام، في العراق كما في الكويت، وفي مصر كما في المغرب، وفي سوريا كما في اليمن، وفي لبنان كما في السودان. كانت الكارثة السياسية شاملة. وها نحن الآن أمام بعض نتائجها المفزعة.
لقد خسرت العروبة نفسها، وخسر العراق العراق والكويت الكويت..
وها إن البديل، في معظم الأقطار العربية، بائس بحيث إنه أعجز من أن يضمن مستقبلاً مشرقاً لأي قطر: لم تكن هزيمة العروبة نصراً للديموقراطية، بل إن الذين يحققون تقدماً في القدرة على التأثير ينتمون بكتلتهم العظمى إلى اتجاهات دينية بل وطائفية بل ومذهبية متطرفة، أو أنهم خليط من قوة الارتداد إلى ما قبل السياسة، أي العشائر ببطونها والأفخاذ، والتحالفات القبلية، فإن كانوا من السياسيين المحترفين فإن نجاحهم يُنسب إلى تواطؤ مع السلطة، ولا سيما أن »بيت الحكم« في الكويت ليس اليوم في أحسن حالاته، وكثيراً ما وقع التواطؤ بين هذا الجناح من »بيت الحكم« ضد الجناح الآخر… وفي الغالب الأعم فإن هذه »التحالفات غير الشرعية« كما يطلق عليها المتضررون منها، لم تكن من أجل إعلاء راية الديموقراطية والحياة البرلمانية.
أما العروبة فقد امتُهنت خلال الحملات الانتخابية في الكويت، كما تمتهن الآن عبر الصيغ التي يبتدعها الحاكم باسم الاحتلال الأميركي في العراق…
في الكويت كان ضمن »عدة الشغل« للفوز بمقعد نيابي أن يلجأ المرشح إلى توجيه الإهانات إلى بعض العرب، سواء عبر حكّامهم أو بعض وزرائهم، أو إلى كل العرب عبر تحقير جامعة الدول العربية وأمينها العام.
وفي العراق سُحبت صفة العروبة عن الكيان السياسي لهذا البلد العربي العريق، ويجري تقرير مصيره الآن في دوائر مقفلة على النقاش بين أركان الإدارة الأميركية، وربما بمشاركة إسرائيلية، وبمعزل عن العرب، دولاً وحكومات وجامعة عربية بطبيعة الحال!برغم ذلك كله فلا بد من التعامل بواقعية مع نتائج الانتخابات النيابية في الكويت: إنها عملية ديموقراطية، بهذه النسبة أو تلك، في ظروف غير طبيعية.
بل لا بد من الاعتراف بأن النتائج جاءت منسجمة مع السياق العام الذي تتخذه الأحداث في منطقتنا التائهة عن حاضرها وعن مستقبلها بل وعن مصيرها.
… وفي السياق نفسه يمكن فهم نتائج العملية الانتخابية التي جرت مؤخراً في الأردن، والتي لا يختلف جوهرها كثيراً عن النتائج الكويتية، وهو: استحداث توازن سياسي جديد قطباه العشائرية والاتجاهات الإسلامية المضبوطة الإيقاع وفق ما يقرّره الحكم ومن يرعى الحكم، وبالتحديد »تجربته الديموقراطية«.
إنها ديموقراطية القرن الحادي والعشرين في الوطن الذي كان عربياً، والذي يبحث العديد من أقطاره الآن عن هوية جديدة تخلّصها من تهمة الانتساب إلى عصر مضى وانقضى… ولن يعود!
أما العصر الجديد فلا بأس من أن يكون في العواصم الصديقة البعيدة، أو في عاصمة الكيان الذي كان معادياً وعنصرياً ومحتلاً، والذي يتقدم الآن طالباً حصته في… النظام العربي الجديد!