سبحان ا” في أمرنا: »هم« يتفقون على تنظيم الاختلاف حول ما يمكن أن يفجّر حربù أهلية مدمرة في إسرائيل، ويتجاوزون بلعبة »ديموقراطية« فريدة في بابها الاحتمالات الجدية لانقسام عميق مسوغاته وحيثياته جاهزة وقابلة للاشتعال في أية لحظة، في مجتمع عنصري التكوين وعدواني بطبيعته تجاه »الخارج« كما تجاه بعض فئاته اليهودية في الداخل،
ونحن نختلف، أكثر ما نختلف، على البديهيات، ثم نحوّل الخلاف إلى شجار فقطيعة فانقسام حاد يقود إلى الحرب الأهلية (معلنة أو مضمرة)… وننتهي مهرولين واحدù واحدù إلى عند الاسرائيلي مسلِّمين بشروطه صاغرين ومعتذرين بالتردي والسقوط والهزيمة وغياب التضامن العربي!
ها »هم« يتفقون، حكومة شمعون بيريز »العمالية« الرابينية مع معارضة بنيامين نتنياهو الليكودية، وضمنù مع معظم التيارات المتطرفة و»الأصولية«، على الاحتكام إلى الشارع، ويقررون معù حلّ الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة (قبل خمسة شهور من موعدها الأصلي)، ليمكن لإسرائيل أن تكمل حرب المفاوضات مع سوريا ولبنان (والفلسطينيين؟!) بجبهة قوية ومتراصة برغم التعارض الحزبي والخصومة السياسية ذات الجذر »العقائدي«.
أما في الوطن العربي فالدم هو لغة التخاطب من الجزائر إلى البحرين،
كلما رفع جائع أو مغبون أو مظلوم صوته بالاعتراض لعلع الرصاص وانفتحت أبواب السجون وسيق الناس إلى المعتقلات وحُشروا فيها كما النعاج أفواجù!
حتى المسائل المطلبية والهموم الحياتية تنتهي بمواجهات دموية، خصوصù بعدما استولدت الأنظمة القائمة معارضات على صورتها ومثالها: لها هي الأخرى عذرها في اعتماد العنف سبيلاً إلى التغيير طالما تعذر الحوار!
كيف يمكن لحكم أن يعتبر محاورة معارضيه، بل ارتفاع أصوات مواطنيه الفقراء والمعوزين والمشوقين إلى تأكيد حقوقهم في وطنهم وكرامتهم كبشر، »إهانة« وتجريحù لهيبته؟!
وكيف يمكن الافتراض أن تفريج كربة من ضاقت بهم سبل الرزق أو من حُرموا من أبسط حقوقهم في التعبير عن ظلامتهم، تهديدù للازدهار؟!
وكيف يمكن تشويه اللجوء إلى أشكال الاعتراض الأولية بتصويره نسفù للاستقرار وخدمة للعدو المتربص بالنهوض الاقتصادي المرتجى لمواجهة إسرائيل وإلحاق الهزيمة بها… حضاريù؟!
… آخر العنقود هو هذا »النظام« الفلسطيني الجديد الذي أضاف إلى الرؤساء واحدù (شرعيù) وأنهى قضية مقدسة بطبيعتها وقد زاد من قدسيتها الدم المراق باسمها ومن أجلها على امتداد أجيال!
لا »الرئيس« الجديد قبل المعارضة التي تحمّلت عبء الاحتلال الإسرائيلي في الداخل، على امتداد ربع قرن أو يزيد، ثم فُرض عليها »حكم« آتٍ من »الخارج« بعدما قدم ما لم تقدمه هي برغم الاضطهاد الطويل والمرير، وبرغم »الاغراءات« التي تفوق بكثير ما قبله هذا »الوافد« فوقّعه من قبل ان يقرأه.
ولا »المعارضة« قبلت التحدي باللجوء الى صندوقة الاقتراع إما لأنها لا تثق بنزاهة الانتخابات، وإما لأنها لا تريد التصادم مع الموجة العارمة التي توهمت في الانتخاب فعل سيادة او فعل تأكيد للذات وبالتالي للحق في الأرض وفي غد أفضل فوقها،
وفي الجزائر تستمر حرب الابادة وكأن الحكم والمعارضة يؤمنان ان البلاد لا تتسع لكليهما معù، مع وعي كل منهما ان استمرار هذه الحرب سيذهب بالبلاد، شعبù ودولة ومؤسسات…
وفي البحرين لا يجد الحكم غير الطائفية سلاحù في مواجهة معارضة الفقراء والمطالبين بحقوقهم كبشر، خصوصù ان الطائفية تستنفر لتأييده الانظمة القمعية المماثلة، كما تدفع المعارضين بشبهة الولاء للخارج وتطعن في عروبتهم فتجعلهم خصومù لأنفسهم ولأمتهم وليس لبعض الشيوخ الطغاة.
***
الامثلة اكثر من ان تحصى، فحيثما التفتّ تشهد دماء بريئة تُراق او تستمع الى صراخ مظلومين يجأرون بالشكوى ولا من يستجيب بغير التهديد بالرصاص او اطلاقه فورù وبغير سابق انذار.
حتى في لبنان، تضيق صدور الحاكمين بالشكاوى والظلامات وهذا الهامش البسيط من الحريات والذي يفرضه التنوع الاجتماعي بكل حساسياته الطائفية والمذهبية قبل الطموحات السياسية لشعبه الذي طالما اتهم بالرقي والتقدم والسبق الى استيعاب روح العصر.
ماذا يتبقى من لبنان اذا مُنع فيه الحوار، ومُنع فيه حق التعبير عن وجهات النظر المختلفة، كامتداد للتنوع، وكشرط للحياة، وكتعبير مباشر عن حيوية الأمة وعن قدرتها على اجتراح الحلول الصحية لمشكلات التقسيم والتفتيت المتبقية عن عصور الفتنة الكبرى والتآمر الاجنبي الدائم؟!
ان لبنان الأخرس والمقموع قنبلة موقوتة،
ولبنان النابض بآمال مواطنيه واحلامهم وآلامهم يضيف الى رصيد العرب عمومù، وبالذات الى رصيد قياداتهم القومية، قيمة معنوية وسياسية استثنائية،
وفي هذه اللحظات بالذات فإن لبنان المحصن بوحدته الوطنية وبانتمائه العربي، وبهامش الديموقراطية التي تكفل قدرù مقبولاً من العدالة الاجتماعية ومن سلامة التوجه لدى الحكم فيه، يعزز قوة المفاوض العربي الوحيد، أي سوريا، في وجه اسرائيل،
والتجربة الاسرائيلية مفيدة في تحديد الوسائل الفعّالة في تحصين الموقف التفاوضي.