الأمة تحت الحصار، فكيف تكون القمة العربية في بيروت خارجه؟
الأمة تحت الحصار بعنوان فلسطيني يشمل الشعب كله، باللاجئين في وطنهم مرة ومرتين وثلاثاً، بالأطفال والنساء الحوامل اللواتي يفقدن أجنتهن أحياناً وحياتهن في أحيان أخرى عند حواجز القتل الإسرائيلية المانعة للشمس والماء والهواء، بشبابها الذين شفّ الشوق إلى الوطن قلوبهم فتآخت أصابعهم مع الحجر، والشيوخ الذين لا ترهبهم المجنزرات ودبابات اقتحام أكواخ الطين وجرافات الأشجار والزرع ولا حوامات الاغتيال.
الأمة تحت الحصار حتى لو »تنازلت« إسرائيل فأفرجت عن رئيس السلطة الفلسطينية بشروط لن يكون سهلاً قبولها، ولن يكون لقدومه إلى بيروت طعم الفوز على العدو، إذا ما قبلها، وقبلها معه المؤتمرون، إذ عندها سيحسم من احتمالات نجاح القمة في حماية فلسطين القضية ما دُفع ثمناً للإفراج المؤقت وبشروط قاسية عن »الرئيس الأسير«، ثم ما سيدفع لقاء عودته وعلى الطريق من رام الله وإليها!
ولن يكون نصراً للنضال الفلسطيني العظيم أن تُفرج إسرائيل، تحت الضغط الأميركي المداري »لغضبة« عربية، ولو مؤقتة، عن ياسر عرفات وتستبقي فلسطين كلها رهينة، تبتزها وتبتز القمة بساعات من حرية الحركة لرئيس السلطة.
ولن يكون عرفات القادم إلى القمة العربية في بيروت في وضع »المنتصر« على أرييل شارون، الذي اجتاح لبنان واحتل عاصمته النوارة، وأخرج المقاومة الفلسطينية منها قبل عشرين عاماً… مع التذكير بأن أصحاب الحق في دورية القمة (دولة الإمارات) قد تنازلوا عنها لبيروت تكريماً للبنان المنتصر بمقاومته الباسلة ودماء مجاهديه وصمود شعبه على الاحتلال الإسرائيلي قبل عامين إلا قليلاً.
الأمة تحت الحصار بعنوان عراقي والخيار ضيق يكاد يخنقها: إما أن توافق على إعلان الحرب عليه والمشاركة فيها، لكي ينثر دمه على أهله، وإما أن تتحمل وزر المسؤولية عن الإرهاب في أربع رياح الأرض.
الأمة تحت الحصار بعناوين تشمل كل رافضي الاستسلام والإقرار بالهزيمة المطلقة، اليوم وغداً وإلى دهر الداهرين.
ولعل ولي العهد السعودي قد اجتهد بأن يرد التهمة، التي نالت منها بلاده (وأسرته) النصيب الأكبر، فطرح »أفكاره« التي ستتحول عبر القمة إلى »مبادرة« تحاول رفع السقف الذي ارتضاه المهرولون إلى الاستسلام فأسهموا بإكمال طوق الحصار على الأمة.
لعل الأمير عبد الله بن عبد العزيز قد حاول تقديم إطار جامع للعرب المتباعدين والذين بات بعضهم يفترض أن مصلحته لا تتحقق إلا على حساب أمته جميعاً فاتبع سياسة »أنا ومن بعدي الطوفان«.
وفي أي حال فلقد حاول الأمير الذي طالما اتهم »بالتطرف« أن يعطي للقمة صياغة أولى لموضوعها الأصلي، أي للصراع العربي الإسرائيلي، عبر تجميع مطالب الحد الأدنى، متمثلة في قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ومؤتمر مدريد، متجاوزاً الدعوة الى »التسول« التي أطلقها وزير خارجية الفضائية التي أنبتت دولة عظمى والتي قرر أميرها في آخر لحظة التغيب عن القمة بذريعة أمنية، بينما أبسط التفسيرات أنه غاب استرضاءً لإسرائيل وحرصاً على عدم القطع معها… فالغياب يعفي من الحرج مع شارون الذي تستضيفه فضائيته اليوم، ربما كتلبية لطلبه الطريف الاشتراك في القمة التي تجمع »ضحايا« الاحتلال الإسرائيلي المعزز بالحماية الأميركية في الماضي وفي الحاضر!
* * *
الأمة تحت الحصار، فكيف تكون القمة العربية في بيروت خارجه؟
الأمة تحت الحصار بأديانها ومعتقداتها وأعراقها ولغتها وموروثها الثقافي جميعاً، من أقصى المغرب المهدد دائماً؟! بحرب الإخوة الأعداء مع الجزائر الغارقة في دمها، إلى أقصى المشرق المتهمة أقطاره باستنبات الإرهابيين وتصديرهم الى العالم المتمدن لتدمير الحضارة الإنسانية، (كأنما أسامة بن لادن اليوم هو غير ذلك الذي رعته المخابرات المركزية الأميركية ودربته وسلحته)… وربما لاستئصال المتحدرين من صلب أولئك »المجاهدين« الذين أوفدتهم تلك المخابرات الى أفغانستان تفتح معظم أقطار الجزيرة صدرها لفرق الإعدام الأميركية كي تدربها على »استئصال« الإرهابيين، وتعيد تدريس القرآن الكريم منقوصاً (كما يحضِّرون في اليمن؟) حتى لا تثير الشبهة فتستحق العقاب!
الأمة محاصرة باتهامات شتى تتراوح بين كونها مهينة أو خطيرة، أبسطها مجافاة روح العصر والغرق في ظلامية التخلف والجهل، وفي الإصرار على توكيد هويتها مما يجعلها غريبة وخارج العالم الأميركي الجديد بملامحه الإسرائيلية.
الأمة محاصرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وحضارياً: محاصرة بكل قطر من أقطارها ثم بمجموعها الذي لا يشكل مجموعاً ولا يتصرف لا بالفعل ولا برد الفعل على أنه »وحدة« جغرافية أو سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو حتى قومية.
ثم إن الامة محاصرة من داخلها بالعجز وتداعياته غير المحدودة، بالانظمة التي فقدت شعبيتها وشرعيتها، او تلك التي لم تكن لها في الاصل شعبية او شرعية.
* * *
الامة محاصرة، فكيف تكون القمة خارج الحصار.
ان ثلث المؤتمرين، او ربما اكثر، تربطهم معاهدات (اعقبت الخروج من الحرب مع اسرائيل) او اتفاقات بالرضى طلبتها »دول« لم تحارب اصلا، ولن تحارب ابداً الا بعض اهلها.
وثلث آخر من المؤتمرين إما غائب عن التأثير او مغيَّب بالمطلق لاسبابه الداخلية.
ومع ذلك يظل الامل قائماً في ان يستطيع الثلث الفاعل تغليب منطق الصمود، خصوصاً ان شروط هذا الصمود ممكنة لا تكلف احداً فوق طاقته.
الامة محاصرة، وفلسطين تحاول بدمها فك الحصار لا عنها وحدها، بل عن امتها جميعاً… ومن الطبيعي ان يرفدها لبنان التحرير بالمقاومة، بمناخ مؤات، فتجربته الباهرة في المواجهة، ولو باللحم الحي، طرية في ذاكرة العرب، تشهد له ولمن دعمه منهم، وسوريا على وجه التحديد، كما تشهد على الذين كانوا يفتحون لاسرائيل السفارات والمكاتب على اجداث شهدائه… وشهداء فلسطين!
ان القمة محاصرة من داخلها ومن الخارج.
على ان وهج الانتفاضة المجيدة لشعب فلسطين يوفر السلاح الفعال لكسر الحصار… والاميركيون المحرجون بإرهاب الدولة في اسرائيل، بجيشها وسفاحي المستعمرين، هم الذين »يتوسطون« الآن للافراج المؤقت عن عرفات، مع ضمان عودته (كما يشدد الفرنسيون)، واذا ما تماسك المؤتمرون وعلى قاعدة الحد الادنى دائماً فإن واشنطن ستكون مضطرة لأن تتحول من الرجاء الى الضغط على شارون، لتخفف من حرجها مع »اصدقائها« العرب بعدما ضبطوها متلبسة على امتداد عام كامل من القتل الاسرائيلي اليومي، بالجرم المشهود: توفر السلاح والغطاء السياسي معاً لحكومة التطرف والعنصرية في تل ابيب، وتحاول مقايضتهم فلسطين بالعراق وإلا خسروا فلسطين والعراق وسائر دولهم!
الصامدون اقلية، داخل القمة، لكن كلمتهم بفضل الانتفاضة كما بفضل تجربتهم المباشرة هي العليا، وسيكون بوسعهم حماية التضحيات الهائلة التي قدمها شعب فلسطين بما يتجاوز »زيادة الدعم المالي« (وهو دعم قاصر عن تلبية الحد الادنى من الاحتياج).
وقمة بيروت فرصة طيبة لإلحاق الهزيمة بالتطبيعيين ومتوسلي العطف الاميركي لعله يرد عنا الهجوم الدموي لأرييل شارون.
وبعيداً عن سياسة المحاور فإن »القلة الصامدة« مؤهلة لأن تستصدر من القمة موقفاً معقولاً لا ينادي بالحرب، ولكنه يعيد تحديد »السلام« المقبول بما يميزه عن الاستسلام المفروض.
على ان الحصار لن يكسر الا اذا جهر العرب كلهم بمن فيهم الكويت برفض الحرب الأميركية الجديدة على العراق، فذلك شرط لحماية فلسطين.
وبالتأكيد فلن تقبل القمة ان تحاصر ايضاً وايضاً بخيار التضحية بفلسطين لحماية العراق، او بالعراق لحماية فلسطين.
وفي هذه المعركة بالذات يمكن كسر الحصار، حقيقة لا قولا.