نزل أقطاب »حلف السلام« من فوق قمتهم الرباعية غير المسبوقة في القاهرة، وعاد كل منهم من حيث أتى تسبقه هواجسه التي لم تجد علاجها الناجع، وتحف به مخاوفه التي لم يهدّئ من حدتها »البيان المشترك« الاستثنائي، ولم تنزلها »الصورة التاريخية« عن قمتها المتفجرة.
لم تبدل القمة الواقع المنذر بانهيارات واسعة، ولا هي خفّفت من الغليان الذي يمور به الشارع الغاضب، بل لعلها قد استفزته واستنفرته وأمدّته بمزيد من السلاح والذخائر.
لقد تبدّت، في ضوء نتائجها المتواضعة، على حقيقتها: هي »قمة الخائفين من السلام« وليست »قمة الخائفين على السلام«،
وبالنسبة للأطراف العربية الثلاثة، وبالذات منهم رئيس الشرطة ياسر عرفات، فإنهم يخافون من »سلامهم«، خصوصù وأن إسرائيل لم تتوانَ لحظة عن تأكيد هويته الإسرائيلية، في المنطلق كما في تلبية الاحتياجات الأمنية والعسكرية والسياسية لمشروعها الأمبراطوري، وعلى مستوى »الشرق الأوسط الجديد« كله!
إنه »سلام« يضيق بموقّعيه العرب،
إنه »سلام« ينذر بمقتل موقّعيه العرب،
والإنقاذ المطلوب »إسرائيلي«، أي من طبيعة »السلام« ذاتها،
ولكن مَن يستطيع تعليق الجرس في عنق إسحق رابين؟!
مَن يجرؤ أن يطالبه، ناهيك بأن يفرض عليه؟!
إنهم بالكاد قد »تمنوا« عليه إنقاذ »سلامه« ليسلموا ويحفظوه، ويستمروا فوق عروشهم بسلام!
وإذا كانت »الصورة« مفيدة جدù له، وقد تنفعه في مواجهة »داخله«، فإن هذه الصورة ذاتها مرشحة لأن تلهب الداخل عندهم، وهو بالذات مصدر الخطر ومأواه.
لقد بدوا، في ضوء النص الهزيل لمكاسبهم في »البيان المشترك« وكأنهم قد استجاروا من الرمضاء بالنار… فهم لم يتفقوا مع الإسرائيلي إلا على القائلين بالتغيير ورافضي الاستسلام في بلادهم: صنّفوهم مثلما يصنّفهم »إرهابù« وتطرفù«، وأصدروا الحكم بإعدامهم! باسمه وباسمهم مجتمعين!
وإذا كان هذا الأمر مفيدù لإسحق رابين مع معارضيه الإسرائيليين، إذ يباهيهم بأنه قد استصدر حكمù أو فتوى من مراجع عربية وإسلامية بإبادة مقاتلي سلامه من العرب والمسلمين، فإنه بالتأكيد لن يزيد من اطمئنان عرفات إلى وضعه المتصدّع، ولا هو سيزيد من شعبية حسني مبارك المرتبك والضعيف، ولا هو سيفتح الآفاق المغلقة أمام الملك حسين المحاصَر والمعزول.
ثم إن إسحق رابين مهدَّد بالسقوط فحسب، أما هم فيتهدّدهم الموت قتلاً،
ذلك أن في إسرائيل »مؤسسات« وأحزابù وقوى سياسية تظل شرعية ومشروعة حتى وهي تعارض الحكومة عن يسارها أو عن يمينها أو حتى من داخلها،
وأقصى ما يمكن أن يصيب رابين هو أن يضطر إلى تعديل حكومته، أو إلى التسليم بتقاسم حكومة اتحاد وطني جديدة مع خصومه، أو إلى ترك موقعه كرئيس للحكومة، في أسوأ الاحتمالات..
أما هم الذين استغنوا بأشخاصهم عن المؤسسات، وألغوا بزعاماتهم الدولة، وعطّلوا الحياة السياسية، وقمعوا الناس فخيّروهم بين التأييد أو الموت صمتù، فإنهم لم يتركوا أمام الشعب خيارù غير الاحتكام للسلاح، وهو هنا »الاغتيال« أو »الانفجار« الشامل على شكل حرب أهلية.
لهذا فخوفهم أعمق بما لا يقاس من مخاوف رابين،
خصوصù وأن »السلام« مكسب إسرائيلي أكيد، بالصورة التي تحقَّق فيها، لن يسقطه أو يلغيه لا خروج رابين من الحكم، ولا غياب الموقعين العرب بالاغتيال الفردي أو بالاضطراب العام.
لقد غاب السادات، بالاغتيال، لكن السلام الإسرائيلي باقٍ يكتم أنفاس مصر ويتهدّدها بالاختناق، إذ هو أضاف أبعادù وطنية خطيرة إلى أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
وهم لا يريدون لأنفسهم مصير السادات، مع أنهم يتَّبعون طريقه ذاتها، بل إنهم قد نزلوا دون الشروط التي قَبِلَ بها والتي اعتبرت مجحفة بمصر آنذاك، وتكاد تبدو الآن متطرفة!
وإذا كان رابين يتساءل الآن: أين ستكون الضربة الفدائية التالية؟! فإن عرفات، ومعه شريكيه العربيين في القمة، يتساءلون عن موعد تنفيذ الحكم المضاد.
ربما لهذا تتزايد المخاوف في لبنان من أن يُتَّخذ شعبه »فدية« لأقطاب »قمة السلام«، وأن تكون أرضه مسرحù للعملية الإسرائيلية الجديدة، والتي لن تؤثر إلا في رفع كلفة السلام الإسرائيلي بعد قمة القاهرة عنه قبلها!