نجحت إسرائيل في أن ترد على العملية الانتحارية قرب تل أبيب بعملية انتحارية في قلب القاهرة!
فالقمة التي دعا إليها شيمون بيريز بلسان حسني مبارك، والتي ستنعقد اليوم تحت لافتة »حلف السلام«، هي ببساطة عملية انتحارية ينفذها بعض العرب ضد كل العرب، بطلب من إسرائيل ولحسابها، وبذريعة الرد على الارهاب الفردي بإرهاب الأمة جميعù.
إنها أخطر من أن تكون ردù على قمة الإسكندرية، التي ظلت أهميتها في رمزيتها،
لكأنها استرداد إسرائيلي للقاهرة، من فوق رأس الولايات المتحدة الأميركية، التي بالكاد أكدت حضورها بالمباركة والدعاء بالتوفيق… تمامù كما وقع لها عند توقيع اتفاق الليل في أوسلو، ومع الاحتفال بالاستسلام الملكي العلني في وادي عربة.
إن إسرائيل تحاول التوكيد لكل مَن يعنيهم الأمر أنها أقوى في القاهرة وعليها ليس فقط من سوريا، بكل الاغراءات المعنوية التي توفرها لهذا النظام المصري المتهالك، بل كذلك من القطب الكوني الأوحد، الولايات المتحدة الأميركية…
وبديهي أن تكون أقوى في القاهرة وعليها من هذا النظام الذي يفترض أنه خرج من ظل السادات، فقد تأخذه الوطنية إلى الشهادة، والحكم أشهى من الموت! فحتى لو كان القرار لغيره فإن اللقب له وكذلك الموكب الفخم وصورة الصفحة الأولى إلى جانب المشاهير.
إنها قمة »المنفردين«، قمة الاتفاقات المنفردة.
إنها البديل الاسرائيلي لمدريد الأميركية… وواشنطن لا تستطيع الاعتراض، واعتراضها في أي حال لن يبدّل جوهريù طبيعة التطورات أو التداعيات المستهدفة بهذا التحول الجذري في »العملية السلمية«.
إنها قمة السقوط الجديد لنظام حسني مبارك الذي كلما توهم في نفسه القدرة على النهوض أعاقه عجزه عن مواجهة أزمته الوطنية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
ولأنه ميّال إلى الدعة والراحة ولا يحب »الدوشة ووجع الدماغ والمعارك« فهو يرتد، تحت التهديد دائمù، إلى أدنى من الموقع السيئ الذي كان فيه.
ولأنه ضعيف ومكشوف »لأصدقائه«، فهم يبتزونه كل يوم ويستدرجونه إلى مواقف ومواقع لم يكن في نيته (ربما؟) أن يتورط فيها، فإذا هو الطريدة، ثم إذا هو حصان طروادة، وإذا هو في النهاية الخارج خاسرù من لدن الأميركيين كما من لدن العرب، من دون أن يربح شيئù من الإسرائيلي الذي يعرف فقط كيف يأخذ،
وحدها إسرائيل تحصد نتائج تذبذبه وارتباكاته وخوفه على نظامه، فتلوي يده وعنقه، وتتخذ منه متراسù تقاتل من خلفه من العرب الرافضين الاستسلام ل»سلامها«..
هي »جبهة جديدة«، يقول شيمون بيريز،
فإسرائيل ستواجه العرب بالعرب.
لم تعد حكاية انحراف السادات أو تفريط ياسر عرفات أو تواطؤ النظام الأردني،
صارت إسرائيل قائدù وموجهù لمعسكر عربي! فصورة رابين يتوسط ثلاثة من »القادة العرب المحاربين؟! سابقù« هي دليل جلي على تبدل جذري في طبيعة الصراع التاريخي، وتحويره من صراع عربي إسرائيلي، إلى صراع عربي عربي تقوده وتنظمه وتحصد نتائجه إسرائيل.
إنها صورة أولى للشرق الأوسط الجديد كما حلمت به القيادات الإسرائيلية وكما عملت وتعمل له على مدار الساعة، بينما القيادات العربية تتبادل التآمر والتواطؤ بعضها على البعض الآخر، ومجتمعة على شعوبها.
لم يعد ينقص غير أن يتم التقاط الصور التذكارية في مبنى جامعة الدول العربية، التي كانت تتخذ من القاهرة حصنها ودرعها والسيف، في زمن الشدة، والحاضنة والراعية في الزمن الجميل.
قمة القاهرة، بغض النظر عن نوايا مبارك، استعراض إسرائيلي للقوة لم يسبق له مثيل.
إنها أخطر من المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمالي أفريقيا الذي نظّمه الملك الحسن الثاني لإسرائيل وأسبغ عليه رعايته موظِّفù حتى لقبه والنسب الشريف من أجل خدمتها.
لكأنما صار الصلح مع إسرائيل شرطù لتلاقي العرب والعرب!
ولعله كان أهون على النفس، وأخف ضررù أن يذهب مبارك إلى إسرائيل من أن ينظم لإسرائيل مثل هذا الاختراق الواسع الذي يسبغ على احتلالها وعلى رؤوسها النووية وعلى مشاريع التوسع الاستيطاني التي تنفذها، مشروعية لم تكن لها من قبل.
حتى الأمس، كان حسني مبارك يبدو في صورة المغلوب على أمره. أما اليوم فله صورة المسوِّق والمروِّج والداعية للاجتياح الإسرائيلي الشامل للمنطقة العربية بأسرها، وانطلاقù من مصر!
لكأنه ارتضى أخيرù برد اعتبار تافه، فوافق على أن تستمد مصر قيمتها ودورها العربي من داخل السيادة الإسرائيلية أو الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
أما بالنسبة لسوريا (شريكته بالأمس في قمة الاسكندرية، إلى جانب السعودية) فإن هذه القمة هي تذخير عربي لهجوم إسرائيلي شرس، في لحظة عجز أميركي فاضح عن الالتزام بالتعهدات التي سبق أن أعطتها واشنطن للعرب عمومù، عشية مدريد، ولسوريا (ومعها لبنان) بشكل خاص.
لكأنه رفض »عربي« لمطالب سوريا ولبنان، أي للحد الأدنى المقبول دوليù والمسلَّم به بالاضطرار عربيù: أي الانسحاب من الأرض المحتلة مقابل اتفاقات سلام على قاعدة قرارات الأمم المتحدة.
إن إسرائيل تحاصر سوريا (ومعها لبنان) بالعرب الآن.
وصحيح أن هذا كله لن يضخ الدم في الشرايين المتيبسة لياسر عرفات، ولا هو سيقنع الأردنيين بصحة المبادرة الملكية، كما أنه لن يحل الأزمة المتفجرة التي تواجه النظام المصري،
.. لكنه سيمنح الوضع المضطرب للحكومة الإسرائيلية فترة تنفس، وهدنة تعيد خلالها ترتيب أوراقها للانقضاض مجددù على العرب المستعجلين موتهم بالانتحار… مع ابتسامة وإصبعين مرفوعين بعلامة النصر!