يخاف العرب من التلاقي، رسمياً، ولو على مستوى وزراء الخارجية، (فكيف بالقمة؟!) حتى لا ينكشف عمق اختلافهم حول ما كان في حكم »البديهيات« من أسباب حياتهم، أو حول تقديرهم للمخاطر الجدية التي تتهدد مصيرهم المشترك (برغم أنوفهم!!)..
الأصح أنهم ممنوعون من التلاقي، وبالتالي من مناقشة خلافاتهم ومحاولة حسمها، في إطار »قومي«، فمثل هذا القرار لم يعد في أيديهم، وهم لا يملكون أن يخرقوا »الحظر« المفروض على التضامن العربي أو التنسيق العربي، لأن الضمانة الأجنبية، أميركية أساساً وإسرائيلية بالاستطراد، باتت هي مصدر الأمان بينما للخطر مصدر وحيد (حتى إشعار آخر) هو »الأخ العربي الشقيق« أو »العروبة« نفسها كفكرة أو عقيدة أو توكيد لوحدة الانتماء!
ويخاف العرب من الجهر برفضهم مبدأ التلاقي حتى لا يتحمّل المبادر إلى إعلان الرفض المسؤولية عن تحول الجفوة إلى قطيعة، وعن وقوع المحظور وانهيار ما تبقى من روابط، ولو عاطفية، وانكشاف فضيحة عجزهم المطلق بما يفقدهم آخر ما يستشعرونه من احترام لأنفسهم وآخر قطرة من القدرة على مساومة »المتبرّع بالحماية«… لا سيما أنه في حالتهم أقوى الأقوياء!
إن كل طرف منهم يفتقد تماسكه الذاتي، ناهيك بقدراته الذاتية (وهو في الغالب قد دفع في ثمنها ما يكفي لبناء جيش دولة عظمى)، ويفتقد عند الآخرين الاستعداد لنصرته، فإذا توفر الاستعداد عزَّت القدرة، وربما دفعه اكتشافه لاتساع الهوة التي باتت تفصل العربي عن العربي إلى الذعر ومن ثم الاسسلام »لغواية« الحماية الأجنبية، التي سرعان ما تصادر قراره وتتولى النطق باسمه وتحديد حاجاته ومصادر الخطر وهوية الخطر عليها لا عليه، ثم تقرر »الضرب« ليس لحمايته بل لتوكيد هيبتها وضمان سلامة »جنودها«.
لقد بات اللقاء العربي، سواء على مستوى الوزراء أو الملوك والرؤساء، ساحة صراع بين الإرادات (الأجنبية قبل العربية) وموضع تجاذب بين مطالب وأغراض متناقضة.
فليس للقمة، مثلاً، معنى موحد عند العرب، الآن.
إن بعضهم، مثل سوريا ومعها لبنان، يطلبها لتعزيز الصمود في وجه التطرف الإسرائيلي، ولخلق مناخ تضامني يطمئن »الخائفين« ويحدّ من تمادي الاستغلال الأميركي لخوف العربي من العربي، لتتزايد من ثم طلبات الحماية، حتى لو أدى الأمر الى لعبة مكشوفة في تبادل الخدمات بين المخيف الأصغر والمخيف (الحامي) الأكبر!
وكانت دمشق قد نجحت لفترة، بالتعاون مع القاهرة، في إشاعة مناخ صحي جذب إليه الرياض، موحياً بإمكان قيام مركز استقطاب عربي قوي ومؤثر، يمكن أن يعيد قدراً من الاعتبار إلى التضامن العربي، ويصدّ بعض المخاطر، فيلجم بعض المغامرين، ويوحي »للخائفين« أنهم لن »يُستفردوا« وأن »أمتهم« موجودة وتملك الحد الأدنى من ضمانات الحماية الذاتية.
لكن الضغوط الأميركية المتزايدة، ومعها التأثير القوي للتطرف الإسرائيلي على الإدارة الأميركية، وهرولة بعض الأطراف العربية في اتجاه التسليم بمطالب نتنياهو والالتحاق به في مواجهة إخوانهم العرب، كل ذلك قد حدّ من إمكان تحول محور دمشق القاهرة الرياض إلى »مؤسسة« أو إلى »دينامو« أو محرك يبعث الحياة في الجامعة العربية، ومن ثم في مؤسسة »القمة«.
ولعل مما أسهم في إضعاف هذا المحور، عودة صدام حسين الى ساحة مغامراته البائسة، مما غلّب عنصر الخوف، ولكن لمنطق الحاجة إلى الحماية الأجنبية، وكشف عجز العرب عن لجم المغامر المهووس كما عن تطمين الخائف المرعوب!
وها هو صدام حسين، الآن، يطلب القمة بينما هو يزرع طريقها بالديناميت والعبوات الناسفة!
لكأنه يريد القمة ليس فقط ليحصل على براءة ذمة من مغامراته السابقة، التي أودت بوحدة الأمة وبثرواتها وبمكانتها الدولية، إضافة إلى العراق كله وطناً وشعباً ومؤسسات، بل كذلك لتكريس زعامته »الخالدة« أو لإجبار الآخرين على التسليم بزعامته المطلقة، حتى وهو ينادي بخلعهم وسحلهم في الشوارع!
وياسر عرفات يريد القمة لتعينه على ما تفرّد فيه وانفرد بارتكابه (عنهم وعلى حسابهم)، ويستقوي بأن يكشف ضعفهم، فإن عجزوا عن مواجهته بردعه ومنعه من التفرد فكيف سيقدرون على إسرائيل، وقد منحها باتفاقه معها ما كان يملك من شرعية »عربية«.
أي أن عرفات يريد القمة لتبرير تفرده، وليشرعن الاتفاقات المنفردة، وبالتالي »الوجود الإسرائيلي« داخل المؤسسة العربية العليا، بما يسقط منطق الصمود والمقاومة والإصرار على إجلاء المحتل، ويقضي نهائيا على احتمالات »سلام عادل«، مع تبرئة مسبقة لذمة الولايات المتحدة الأميركية، إذ ما قيمة سعيها من الخارج ما دام أطراف الصراع قد اتفقوا على إنهائه (وتبادلوا بعد الأنخاب القبلات)؟!
كذلك فإن صدام حسين يطلب القمة كتتمة لهجومه البائس على الكويت أو كتعويض عنها، فإما أن يختلف العرب حول هذا الأمر فتنسف القمة، وإما أن يتفقوا على قبوله فيكون قد »انتصر«، أو على »استبعاده« (وهذا متعذر) فيتقوّى بتعزز النعرة الكيانية داخل العراق الذي سيجد أن »أهله« أقسى عليه من الأجنبي!
وفي الحالين فإن كلاً من الرجلين يطلب »إجماعاً« على تشريع التفرد!
.. ويطلب موافقة من القمة على خروجه عن العرب بالانضمام الى الإسرائيلي أو باستدراج الأجنبي للعودة إلى احتلال أرضهم!
ليست القمة عند العرب واحدة، لا في الغرض منها ولا في النتائج المرجوة من انعقادها.
ان الانقسام حاد لدرجة تمنع تلاقي الوزراء، فإذا ما تلاقى بعضهم حرصوا على إحاطة »خبر« اللقاء بالسرية، ناهيك بنتائجه!
صار يكفينا لقاء القلة من المتفقين على الحد الأدنى..
في انتظار ضربة أميركية جديدة، أو هجوم إسرائيلي جديد: تلك لتغطية فضائح داخلية، وهذا لنصرة متطرف على متطرف، ودائماً على حسابنا وبدمائنا!