يريد مجلس الوزراء، بأعضائه الثلاثين الإيحاء لمساكين اللبنانيين، انهم لا ينامون الليل وهم يفكرون بالمصلحة العامة، وانهم يحترمون الأرقام احتراماً بالغاً لا سيما تلك المتعلقة بالديون المترتبة على خزينة الدولة… بل الأرقام جميعاً، سواء اتصلت بالصفقات وبينها التلزيمات والسماح بالممنوع ومنع المسموح به تصديراً واستيراداً، والسماح بالممنوع إلا لكبار المستوردين الخ.
لكن مجلس الوزراء مجتمعاً سرعان ما تفرق حشده الى مجالس بعدد وزرائه بجداول أعمال مختلفة، واحتدمت المناقشات وتفرق “الحشد” حسب المصالح فاذا مشروع الموازنة الذي كان يقر بجلسة أو جلستين او ثلاث جلسات في أحسن الحالات، أصعب الموازنات وأعقدها، لأن رئيسه والوزراء يعرفون “أسرار اللعبة”، وان تطويل المناقشات قد يكشف المستور ويفضح غربة الأرقام عن واقع الحال.
كذلك فقد تبين ان وزير الخارجية عبقري في الرياضيات التي هرب منها وزير المال الى الحقوق، وهكذا تصادم الوزيران كأنهما جبلان، ومطت جلسات المناقشة حتى تداخلت الأرقام وداخ مجلس الوزراء (فالوقت رمضان وكلهم صائم ـ عما لا يريده).. وجاءت إجازات الأعياد لتزيد في أيام العطلة.. ثم تفجرت تظاهرات الغضب للمطالب الدائمة والمهملة على أساس ان الإنسان “نسى” بطبيعته، ومهما علا الصراخ في الشارع فان ما كتب قد كتب ولا مجال لتعديله: إلا الدكتور شاخت الذي أباح وزارة الخارجية بموظفيها لجهاز أمني شبه معطل لتفتيش صارم، بينما انصرف هو ـ برغم مسؤولياته الثقيلة وجولاته الانتخابية كرئيس لحزب استولد قيصريا ـ ولا ذلك العالم العربي العظيم الذي ابتدع “الصفر” استطاع اقناع وزير المال بعدم استهلاك الأرقام في موازنة يعرف هو قبل غيره، انها غير واقعية، برغم التعديل الأول والتعديل الثاني ثم التعديل الثالث الخ.
وكيف تكون الموازنة متوازنة بينما لا أحد ولا شيء في البلد متوازن.. فكل وزارة دولة قائمة بذاتها، تتبع حزبها وليس لحكومتها، وكل وزير يربط بين كرامته الشخصية والأرقام التي تعب الموظفون في تنسيقها وترتيبها وتبرير الزيادة فيها، وبين الوريقات التي قدمها كموازنة لوزارته وبالتالي فالنقاش يشكل إهانة له، اذ يعتبر جاهلاً بالحساب، فضلاً عن موجبات “التقشف” الذي لم يعرف تفسيره ودلالاته ومن هو مرجعه.
بين المباشرة في دراسة الموازنة واليوم، قامت ثورتان شعبيتان في كل من الجزائر والسودان فأسقطتا نظامين دكتاتوريين.
… وباشر الرئيس الأميركي المبدع دونالد ترامب تنفيذ مشروعه الذي أطلق عليه تسمية “صفقة القرن” (فهو في الأصل، مضارب في البورصة، كما تعلمون)، ثم انه “الشريك ـ القائد” لرئيس الحكومة الإسرائيلية الذي لم ينجح ـ حتى الساعة ـ في تشكيل حكومته الجديدة لأنه لم يستطع إقناع الكتل الوازنة في الكنيست بالمشاركة فيها..
على هذا فقد أوعز ترامب بعقد قمة تمهيدية لـ”صفقة البحرين”، في حين تولت المملكة العربية السعودية بالدعوة الى مؤتمري قمة دفعة واحدة: في مكة المكرمة الأولى قمة عربية، سيغيب عنها، مع الأسف، الرئيس ميشال عون، اذ يستحيل على غير المسلمين دخول المدينة المقدسة..
وهكذا فان رئيس الحكومة، وهو سعودي الهوى، سيحل محل رئيس الجمهورية.. في حين ان ثلاث دول عربية، على الأقل، هي الجزائر والسودان وليبيا (الممزقة) لن تستطيع المشاركة، فان هي شاركت فستكون مشاركتها على أدنى مستوى..
لكل هذه الأسباب فرئيس الحكومة الذي يعرف ان رغبة الملك سلمان لا تناقش خصوصاً وان “ضيافة” ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ما تزال حاضرة في ذهنه، بعد معالجة آثارها على ذاكرته..
أما القمة الثانية في مكة المكرمة فعنوانها متحرك، وان كانت ـ مثل القمة الأولى ـ لن تناقش “صفقة القرن”، لأن السعودية لا تضمن الإجماع، ولأن ترامب لن يرضى (ومعه نتنياهو) بما هو أقل من قمتين لإعلان الحرب على إيران تمهيداً للصفقة الأميركية الموعودة.
لكل هذه الأسباب مجتمعة سيضطر مجلس الوزراء مجتمعاً.. الى إقرار الموازنة قبل المواعيد التي لا مجال لمناقشتها.