طلال سلمان

قبل خلوة فقرا وبعدها

أحد أمرين:
} إما أن كل ما يقال عن تفاقم الأزمة الاقتصادية واشتداد الضائقة المعيشية وتردي الأوضاع الاجتماعية هو من باب الدسّ والتآمر والتشهير بالحكم، ولا يستحق أي رد، ومن باب أولى أي علاج.
}} وإما أن ذلك كله صحيح ويستحق بالتالي أن يتم التعامل معه بجدية أكثر مما أوحت به الإعلانات الترويجية التي سبقت ثم »التوضيحات« الإعلامية التي رافقت وأعقبت »خلوة فقرا« يوم السبت الماضي.
لهواة الجدل الدستوري حول الصلاحيات أن يعرضوا الأمر من زاوية »يحق أو لا يحق«، وهل لمثل هذا الاجتماع »نصاب« أم لا، ولكن ما لفت الناس أن تعرض أوجاعهم والمخاطر الجدية التي تتهدد مستقبلهم بمثل هذا التبسيط والاستسهال والدعة وما إلى ذلك من مظاهر رأى فيها البعض استغفالاً ومن ثم استهانة بعقول الناس وبمعلوماتهم ولو مبسطة.
ولهواة المقارنات والمفارقات أن يشبّهوا »خلوة فقرا« اللبنانية بين رئيس المجلس ورئيس الحكومة، الصديقين والجارين والحليفين، وبين »خلوة كامب ديفيد« بين الرئيس الأميركي جورج د. بوش ورئيس الحكومة البريطانية طوني بلير، وخصوصا أن صور اللقاءين كان فيها بعض التشابه في حالة الطقس والثلوج التي تزركش المنظر في المنتجعين الصيفيين ثم في الجو العائلي والخارج على الرسميات، في اللباس والبروتوكول، وإن ظلت الخطورة تدمغ الاجتماع بطابعها الرصين.
… هذا من دون إغفال واقعة محددة: أن منتجع كامب ديفيد »مضافة« يملكها »القطاع العام« وإن كانت مخصصة للرئيس الأميركي وضيوفه، في حين أن فقرا منتجع مصيف مشتى أسَّسها وأطلقها القطاع الخاص، وقد أنشأ فيها المقتدرون قصورا أو استراحات صيفية شتوية للراحة والاستجمام وممارسة رياضة التزلج (للقادرين).
… ومن دون إغفال أن الطريق بين عين التينة في بيروت وفقرا في كسروان تمخر عباب الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الديموغرافية، كما تخترق بعض النتائج المفجعة والآثار التي يصعب زوالها للحرب الأهلية الطويلة التي اجتاحت اللبنانيين (وجاءتهم بالعالم كله، شرقا وغربا) على امتداد دهر استهلك جيلين منهم وها هي بعض نتائجها تكاد تستهلك جيلاً ثالثاً.
ما علينا، فلنعد إلى جوهر الموضوع… ولنحدد الملاحظات:
الأولى برغم أن »ما كل ما يتمنى المرء يدركه« فلقد كنا نتمنى أن تجيء الأزمة التي تعصف بالبلاد بالجميع إلى المقر الشرعي والطبيعي لمعالجة الأزمات، أي إلى المؤسسات، فتعقد »خلوة« إن كان لا بد من »خلوة«، في مقر المجلس النيابي في بيروت، وبحضور مجلس الوزراء مكتملاً، فتعرض للملفات الحاوية لوجوه الأزمة مجتمعة، وأن تكون مفتوحة للاستعانة بأصحاب الرأي وأهل الخبرة والاجتهاد في مختلف مجالات الانتاج وفي باب معالجة الأوضاع الاقتصادية المأزومة والأوضاع الاجتماعية المنذرة بالتفجر.
إن الأمر يكاد يستحق إعلان حالة طوارئ سياسية اقتصادية، وإن من غير عسكر..
الثانية كان التمني، على فرض أن مثل خلوة فقرا ضرورية، أن تعقد من دون إعلان مسبق ومن دون بيان لاحق، مما يؤكد وصول البلاد إلى حافة الخطر وليس في اليد أو في التصور الشخصي حلول أو مقترحات حلول جدية.
ولو كان الأمر بهذه البساطة فعلاً، ويمكن أن تحسمه خلوة بين رجلين، ولو مسؤولين كبيرين، لوجبت محاكمة رئيسي المجلس والحكومة بتهم خطيرة أبسطها حجب الحلول الضرورية وترك بلادهما بمواطنيها تتخبط في خضم أزماتها المتلاحقة، ولا تجد منفذا إلى الفرج وإلى استعادة التوازن النفسي، قبل الاهتداء إلى طريق زيادة معدلات النمو وخفض معدلات الفوائد أو خدمة الدين ومسح بعض المليارات من الديون المتراكمة، فضلاً عن استجلاب الاستثمارات والمستثمرين والمشترين لمؤسسات القطاع العام، ولو كانت مفلسة وأوضاعها مزرية أو هي تصور كذلك من باب الترويج واستدرار لعاب الطامعين بشراء المهدورة قيمته بسبب رداءة إدارته.
ثم، وإذا كان الأمر بهذه البساطة فعلاً، لماذا لم تعقد هذه الخلوة الإنقاذية بين رجلين هما في السلطة شريكان وفي الانتخابات حليفان وعلى المستوى الشخصي صديقان لدودان، قبل شهرين، أو قبل سنتين، أو قبل الخمس سنوات العجاف؟!
الثالثة إذا كان إصلاح الأمور يتم في خلوة ثلجية ممتعة، فمن تراه كان مسؤولاً عن إفشال الإصلاح حين عُقد العزم عليه مرة واثنتين وثلاثا،
وإذا كان أمر الفائض من الموظفين، متعاملين ومتعاقدين ومياومين وبالفاتورة، يمكن حله في جلسة ثنائية، فلماذا تأخر حتى اليوم، هذا فضلاً عن التساؤل عن هوية أولئك الذين حشوا الإدارة بهذا الكمّ الهائل من الذين لا يذهبون إلى مقار عملهم، فإن ذهبوا فمرة في الشهر لكي يقبضوا، وإن داوموا فهم لا ينتجون حسب الاتهامات الموجهة إليهم أو إلى أكثريتهم… وبعد التساؤل يجيء دور مساءلة هؤلاء الذين لم يشاركوا في الخلوة ولو كانوا مشاركين في »الجرم«؟!
ما الذي استجد حتى صار ممكناً ما كان متعذراً من »السير بعملية الإصلاح حتى النهاية«؟!
.. و»تحريك القطاعات الإنتاجية لإيجاد فرص عمل للشباب«،
.. وتأمين »الوسائل الكفيلة بجعل لبنان مركزا ثقافيا وحضاريا وماليا«،
.. وضرورة »تنفيذ المشاريع وخصوصا في المناطق المحررة«،
إن لهجة البلاغ الصادر عن خلوة فقرا تشابه لغة البيانات المشتركة التي تصدر في أعقاب اللقاء بين رئيسي دولتين استبعدا ما هو موضع تعارض في المصالح وركزا على ما يجمع ويحقق فائدة مشتركة..
* * *
لا جدال في أن الكل مثقل بهموم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان وضغوطها ونتائجها السياسية، بكل أبعادها الطائفية والمذهبية، ومن ثم الاجتماعية منها وهي منذرة بالتفجر.
ولا جدال في أن هذه الأزمة تلقي بظلالها على الحكم كله، بمختلف رموزه ومؤسساته جميعا.
لكن البحث عن حلول يحتاج إلى ما هو أكبر وأكثر من لقاء بين رجلين في منتجع يقصده الهاربون من ضغوط الأزمة للاستراحة من همومها، تاركين فقراء الله، جنوبا وشمالا وبقاعا وجبلاً وعاصمة أميرة، يحاولون مخادعة أولادهم بشراء الأرخص من الهدايا، احتفالاً بالعيد الذي يحتفل فيه بتدخل العناية الإلهية لإنقاذ »الضحية« بعدما ثبت الإيمان المطلق عند الأب والالتزام المطلق عند الإبن.
… و»الخروف« كان أيضا »الضحية« في خلوة فقرا الإنقاذية.
لكن »النار« لم تنطفئ بعد، خارج مسرح الخلوة..
وختاماً لا بد من التمني أن تكون هذه الخلوة، وبرغم كل التحفظات، خطوة أولى على طريق طويل وشاق وملغم.
ولا بد من التسجيل أن الرجلين المسؤولين حاولا وسيتابعان المحاولة باستكمال »المناقشات مع رئيس الجمهورية وفي إطار كل مؤسسة«.. ومن اجتهد فحاول ففشل فله أجر واحد ومن نجح فله أجران!

Exit mobile version