دخلت »الحشيشة« مجلس الوزراء، ولولا »دخنة« المازوت و»الحريق« في سنترالات التخابر الدولي، لكانت »جلسة كيف« ممتازة وفريدة في بابها!
أما البعلبكيون فقد شكروا النبتة الملعونة لأنها قد أوصلتهم ولو كخارجين على القانون المحلي منه والدولي الى سدة مجلس الوزراء »فانبسطوا« بدورهم، إذ نادرا ما بلغوا مثل هذه المكانة العالية واستحقوا مثل هذا التكريم السامي..
ثم إن المثل القائل »صدفة خير من ميعاد« ينطبق على حالتهم وكأنه صيغ من أجلهم: فمع الافتتاح »الرسمي« لمهرجانات بعلبك الدولية تم تفجير اللغم الموقوت تحت عنوان »زراعة الحشيشة في سهل البقاع«، وبالتحديد في منطقة بعلبك الهرمل، ربما نتيجة لارتفاع الأصوات النيابية (الموسمية) المطالبة بتوجيه قدر من العناية الرسمية لاستنقاذ هذه المنطقة التي كانت مصدرا للخير العميم من بؤسها المتفاقم سنة بعد سنة والذي يكاد يدفع أهلها الى تعاطي المخدرات (لو أنهم يملكون ثمنها) وليس فقط الى زراعتها!
وسط زحمة هذه المناسبات والاهتمامات كاد يضيع جهد دؤوب بذلته وتبذله المؤسسات القليلة والضعيفة الامكانات، كالبلديات، وبعض طلائع الشباب البعلبكي لاستنقاذ المدينة والقلعة (إحدى عجائب الدنيا السبع) التي تطعم الناس شعرا وموسيقى، والتي جرت العادة أن تستثمر صور أعمدتها من دون أهلها، والمفاخرة بشمسها من دون أرضها وفلاحيها المحروقين بالهجير والعطش والإهمال والمدموغين بتهم قاسية أبسطها شيء من الجلافة والجهل ومجافاة الحضارة!
فاليوم، الجمعة، تحديدا تفتتح في مدينة بعلبك ذاتها، ورشة عمل لتأهيل وترميم المناطق الأثرية، كخطوة أولى على طريق تنفيذ فكرة »2004 سنة عالمية لبعلبك«.
والفكرة ليست مجردة بل هي الآن مشروع خطة رسمت لها الخرائط وأعدت الدراسات، وطاف بها من أنجزها من المهندسين والأساتذة الجامعيين والباحثين والخبيرات والمهتمات بالشأن العام فضلا عن المدينة، على الوزارات والادارات المعنية، يعرضون ويشرحون ويتمنون على المسؤولين منحهم »الرعاية« وشرف الحضور ليس إلا.
قد تطل من هذه الكلمات شبهة الدفاع عن الذات والأهل، وقد يصنفني البعض من أنصار الحشيشة والحشاشين، أو ربما من المهرّبين وتجار المخدرات، لكن حملة التشهير التي شنت على منطقة بعلبك الهرمل على امتداد الأسبوعين الماضيين أقسى من أن يمكن السكوت عليها أو إدراجها في خانة الحرص على سمعة لبنان الدولية… فهل تصان سمعة لبنان عبر التشهير باللبنانيين (ولو كانوا بعلبكيين)؟!
لأول مرة منذ عقود، تجول كاميرات المحطات التلفزيونية الأرضية والفضائية، المحلية والعربية والدولية، في »مجاهل بلاد بعلبك الهرمل« فتصوّر الفلاحين بلا وجوه والفلاحات داخل مناديلهن الطويلة، ويفرض موضوع الحشيشة على صدر الصفحات الأولى عبر جعله الموضوع الأساس لتصريحات المسؤولين وردود النواب الميامين، واستنفار الذابّين عن السمعة الدولية للبنان لكي ينزلوا الى الساحة بأسلحتهم الثقيلة، فإذا هذا هو الهم الوحيد لعموم المواطنين، وإذا به يتقدم على خلافات الرؤساء وثقل الدين العام وعجز الموازنة وأعباء خدمة الدين وفشل الإصلاح الإداري وغياب الانسجام عن الحكومة وغياب المسائل الحيوية عن اهتمامات النواب الخ.
لا يمكن، بأي حال، الدفاع عن زراعة الحشيشة أو عن الاتّجار بها أو تهريبها، لكن الموضوع هو الفلاحون المشققة أيديهم والمعدومة مصادر دخلهم والذين تنضب المياه الجوفية في أرضهم نتيجة المخالفات واستغلال النفوذ وانعدام السدود وشح المطر!
لم يزرع الفلاحون أرضهم بالحشيشة ترفا أو هواية أو رغبة بمخالفة أو تحديا للقانون وللمجتمع الدولي الذي لا يعترف بهم إلا… كإرهابيين!
ومع أن كل الحجج والذرائع لا تبرر ولا يجوز أن تبرر زراعة الممنوعات إلا أن المشكلة أعمق من أن يحلها قرار إتلاف النبتة الملعونة!
إنه مظهر للمرض، أما المرض فمن يهتم به، ومن يهتم بالمريض؟!
يمكن القول، براحة ضمير، إن الذين قصدوا الى مهرجانات بعلبك عند تأسيسها لن يلمسوا فارقا يذكر لو ذهبوا الى هذه المدينة ذات التاريخ المجيد اليوم عما كانت عليه في الستينات، بل إنها الآن أبأس حالا، ففنادقها (القليلة أصلا) نقصت ولم تزد، وأشجارها تكاد تنقرض تحت زحف العمران الذي ينشأ بمعظمه مخالفا للقانون، ومياهها أنقص بما لا يقاس مما كانت عليه، وسكانها أكثر عشر مرات أو يزيد كونها قد احتضنت الذين هجروا قراهم البائسة والبعيدة وجاؤوا الى »الحاضرة« لعلهم يجدون فيها باباً للرزق.
وما يقال عن بعلبك هو العنوان والتفاصيل لكل تلك المنطقة المتروكة للريح، والتي دفعت وتدفع الشهداء ولا تحصد إلا التشهير يضيف الى أسباب بؤسها سببا جديدا.
لمرة، فليكن أهل بعلبك الهرمل مواطنين،
ولمرة، فلتكن الدولة دولتهم، أي المستشفى والمدرسة والطريق والوظيفة والخدمات وليست البندقية والسجن وأداة التشهير.
لمرة فلتكن الدولة دولتهم: قوية بهم لا قوية عليهم، وضعيفة أمام نهّابي المال العام ومعطلي الإصلاح ومستثمري مرافق الدولة في البر والبحر والجو، بينما من يفترض بهم أن يحموها »مسطلين« بلا حشيشة وبلا جميل لأهل بعلبك الهرمل!