طلال سلمان

قاهرة لعربها لا تطبيعيين

لا ينقص اختلاف الرأي تقدير العرب، عموماً، لمصر، ولا هو يبدل موقعها في قلوبهم، أو ينزل مكانة القاهرة في وجدانهم، فهي مدينتهم بل عاصمتهم وموضع اعتزازهم، أمس واليوم وغداً.
»مصر ام الدنيا«، ولو فقيرة.. والقاهرة قبلتهم ووجهة سفرهم اذا ما تحركوا، ولو مزدحمة ومشبع جوها بالغبار، والخدمة في الفنادق الغالية متردية.
ولأن القاهرة فسيحة جداً، تضيق بالعشرين مليون بني آدم نهاراً، وبالخمسة عشر مليوناً في ليلها الساحر، فهي تتسع وتستوعب و»تبتلع« مختلف الآراء والاتجاهات وكل أنواع السياسات، بما فيها المنحرف أو الضال.
من هنا، وبرغم المرارة، فان العرب قد أخذوا كرامة مصر بالاعتبار وهم يعترضون على تشكيل »جمعية القاهرة للسلام«، في مصر، كاطار ينظم »جماعة التطبيع« ويسبغ عليهم قدراً من »المشروعية«، ويوسع أمامهم مجال الحركة، خصوصاً اذا ما صوروها وكأنها موضع »الرضا الرسمي« أو أقله »لا اعتراض« عليها وعلى أنشطتها وعلى تمويلها »المجهول؟« المصادر، طالما انها قد نالت مع الترخيص نوعاً من الدعم الذي مكن لقيامها برغم اشتداد الحملات على »التطبيعيين«.
فان تعقد هذه الجمعية مؤتمراً دولياً في القاهرة، أمر من الصعب قبوله، خصوصاً وهي تحاول الايحاء بانه يحظى بتغطية رسمية، وان تعمم مسبقاً ان وزير خارجية مصر عمرو موسى سيكون خطيب الافتتاح، فلما كذبها ونفى مشاركته، عادت تعلن ان سفيراً أو مديراً من وزارة الخارجية سيلقي كلمة الوزير ضيف الشرف…
وغير مقبول أيضاً ان تعطي هذه الجمعية اللقيط نفسها حق توجيه الدعوة الى مسؤولين اسرائيليين وعرب وان تتبرع بتنظيم »حوار« بين القتلة والضحايا، هذا يسيء الى مصر وصورتها والى القاهرة وموقعها في قلوب العرب أكثر من اساءته الى غير المصريين.
فالقاهرة ليست كوبنهاغن، ولم تخرج من هويتها ومن انتمائها القومي، حتى وهي قابلة بالاضطرار نتائج ما أتى به وورطها فيه أنور السادات.
لقد اختلف الزمان، وهذه حقيقة، وقد لا يكون مستحباً اليوم استخدام لغة قديمة ومستهلكة ومرذولة ومستفزة ومستعدية لبعض الأشقاء وجميع الأصدقاء، مثل »العدو الاسرائيلي«،
اختلف الزمان، وهذه حقيقة، ولم يعد العرب عرباً تماماً، أو عربا فقط، أو عرباً كلهم بالمواصفات ذاتها، وبموجبات الانتماء ذاتها، وبالتزامات الدفاع عن الهوية ذاتها،
اختلف الزمان، وهذه حقيقة، لكن القتل الاسرائيلي للانسان العربي لم يتوقف، والتدمير الاسرائيلي المنهجي لأسباب الحياة في بلد عربي، ولو ضئيل المساحة وصغير بعدد سكانه، يسمى لبنان، مستمر ومتصل وبوتيرة تزيد ولا تنقص،
اختلف الزمان، هذه حقيقة، وبين معالم اختلافه ان القاهرة قد وقعت مكرهة ومضطرة ومرغمة، أو هكذا نحب ان نفترض معاهدة مع (من كان سابقاً) العدو الاسرائيلي، والتزمت بموجبات محددة لعلها تخالف رغباتها أو ارادتها، وبالتأكيد مصالحها،
كل هذا مفهوم حتى لو لم يكن مقبولاً من طرف الضحايا والمقتولين (تجنبنا كلمة شهداء منعاً للاستفزاز) في لبنان، سواء أكانوا فلاحين في الجنوب أو من صغار الكسبة في البقاع أو رجال اطفاء ودفاع مدني في بيروت وضواحيها (ناهيك بالكهرباء والجسور ومنشآت الاتصال الهاتفي)..
لكن غير المفهوم ان تستضيف القاهرة هذا المؤتمر الذي أعد وروج له »التطبيعيون« الذين لا تشغلهم كثيراً أنباء الغارات الاسرائيلية وضحاياها،
يمكن ان نفهم ان العلاقة مع العدو (سابقاً) لم تعد »خيانة«، كما كان المعنى القديم لمثل هذه العلاقة المحرمة آنذاك، وانها باتت »وجهة نظر« يجب ان تسمع فلا ترفض مسبقاً ولا تدان بالمطلق،
ويمكن ان نفهم ان تنشأ جمعية ممن لا يعرفون ولا يعترفون بالحلال والحرام، ويكرهون اللغة والمفاهيم والتعابير والمضامين البائدة عن العدو والسلام والحرب والحق الخ…
ويمكن ان نفهم ان يحتشد في مثل هذه الجمعية (القاهرة للسلام) بعض المنتفعين المتلطين تحت لافتة »رجال الاعمال« والذين يمكن اعتبارهم »اثرياء السلام« وهم اخوة بالرضاعة لاثرياء الحرب المشهورين،
لكن القاهرة، مع ذلك، ليست كوبنهاغن.. ولن ترضى بان تكرم قتلتنا ونحن بالكاد دفنا شهداء الاغتيال الاسرائيلي،
مع ذلك فلن ينقص حبنا لمصر، ولن نندفع مع عواطفنا المستفزة فنتركها لاسرائيل، فمصر هي دولتنا و»امنا« وهي موضع اعتزازنا واكبارنا بتضحياتها الجليلة وبقيادتها لنضالات الامة في معظم الحقبات العصيبة في تاريخها،
ان مصر، برغم قيودها، ليست وسيطاً بين العرب واسرائيل، بل هي باقية طرفاً في الصراع معها.
وها هم »اولاد البلد«، أي أهل مصر، يعدون لمؤتمر مضاد، ويرفعون الاعلام السوداء في وجه هذا المؤتمر اللقيط الذي أريد بعقده في القاهرة الاساءة الى مصر، والايحاء بانهم قد أخذوا عاصمة المعز التي لا تؤخذ..
فقط لو أمكن ان يبقى »التطبيعيون« سواحاً في كوبنهاغن بدل ان تكون القاهرة دار ضيافة للاسرائيليين، بينما لا يستطيع العرب ان يعقدوا لقاء جدياً ولو تحت لافتة »التشاور« وليس تحت لافتة التضامن أو وحدة الهدف أو… »تمتين الطوق من حول العدو الاسرائيلي«، كما كانت تقول اللغة البائدة!
على أي حال ستبقى مصر خارج مؤتمر التطبيعيين، الذي لن يستطيع تمويه نفسه ولا طمس النجمة المسدسة التي تطبع منظميه وضيوفه،
ولسوف تبقى مصر لابنائها، وللعرب جميعاً، سيفهم في القتال وحصنهم في الصمود، وقيثارتهم في حب الحياة، وعقلهم المفكر والمخطط للغد الافضل.
طلال سلمان

Exit mobile version