لا يقوم سلام ولا يدوم الا بين متكافئين،
وليس سلاماً، بأي حال، ذلك »الاتفاق« الذي يفرضه غالب عادٍ على صاحب حق مغلوب على أمره، ومقهور بحاكمه أو بعجزه عن حماية حقه في أرضه ومستقبله فوقها.
ولأن ما تم بين اسرائيل وبين أطراف عربية أهمها مصر لم يكن سلاماً، بالفعل، فان »الاتفاق« ما زال وبعد سبعة عشر عاماً من التوقيع على نصوصه البائسة في كامب ديفيد وتحت الرعاية الأميركية، أقرب الى »هدنة قسرية«، أو الى تسليم بالاكراه أو صلح إذعان، تجنباً لاستخدام توصيف أدق وإن كان أقسى: الاستسلام.
لأنه ليس سلاماً فما زال المواطن المصري خارجه، وضده،
ولأن »الاتفاق« جاء جزئياً وقاصراً ولا ينطلق من أساس لموضوع، فلسطين، وغير مهيأ لأن يشمل الأطراف العربية الأخرى المعنية بالصراع، كما انه لا يحقق للفلسطيني الحد الأدنى من حقه في أرضه، فقد ظل خارج الضمير وخارج الحياة اليومية للمصريين الذين يرونه في أحسن الحالات وقفاً للحرب وليس سلاماً.
كان التجلي الكامل لحقيقة مثل ذلك الاتفاق يتطلب حاكماً اسرائيلياً في مثل »وضوح« بنيامين نتنياهو، وها هو الآن في اكمل تجلياته..
وها هي مصر المستفزة وطنياً وقومياً بصلافة نتنياهو وباستهانته بدورها الدولي ومسؤولياتها العربية، تكاد تباشر محاسبة ذاتية بمفعول رجعي،
وتدرك مصر الآن أن الذريعة المباشرة للحرب الجديدة التي يشنها عليها حكم التطرف الاسرائيلي تتصل بالمؤتمر الاقتصادي المقرر عقده في القاهرة، أو الذي كان مقرراً عقده في القاهرة خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
من الدار البيضاء الى عمان، وفي الطريق الى القاهرة، قاتلت مصر بضراوة ضد المحاولات الاسرائيلية المعززة أميركياً لتهميشها وشطب ثقلها ودورها الحاسم في أي تصور جدي لمستقبل المنطقة،
كانت الذخيرة في هذه الحرب المحقة عربية شاملة وليست مصرية فقط،
ففلسطين، حتى باتفاق أوسلو البائس، مسؤولية مصرية بالكامل، والرئيس حسني مبارك يرى نفسه المستهدف الأول (وقبل سلطة عرفات الشكلية) بأي اخلال في تنفيذ ما قبلته تلك »السلطة«، أو بأي تسويف وتهرب من الالتزام باستكمال تنفيذ ما تبقى منه،
أما الصمود السوري اللبناني، بكل ما حظي به من تقدير وإكبار واحتضان في الشارع المصري، فقد عزز سعي مصر الى استعادة حقها في دور أساسي، وأكسبه مزيداً من المشروعية القومية.
في هذا المجال لعبت المقاومة المجيدة التي مارسها ويمارسها المجاهدون ضد الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان وبقاعه الغربي، دور الرافعة لحالة الاستنهاض الوطني التي يعيشها الشارع المصري والتي اخذت تعكس نفسها بوضوح على سياسة الحكومة وقراراتها وعلاقاتها الدولية، وبالأساس على موقفها من اسرائيل.
اسرائيل نتنياهو خارج »السلام«،
واسرائيل نتنياهو نسفت مؤتمر مدريد و»العملية السلمية« التي كانت ترعاها الولايات المتحدة الأميركية،
واسرائيل نتنياهو تحاول استثمار »اتفاق الاذعان« الذي عقدته مع أنور السادات لالغاء مصر بمحاصرتها داخل حدودها، فقيرة وجائعة ومعزولة عن اشقائها العرب، ومعطلة الدور في محيطها الافريقي وفي المجتمع الدولي عموماً.
لقد قدم نتنياهو »خدمة ممتازة« الى مصر والمصريين ومعهم سائر العرب: فهو يفضح الآن طبيعة ذلك »السلام« الوهمي الذي عقدته اسرائيل مع السادات، فاذا هو اتفاق اذعان بالمعنى الحرفي، يمنع مصر من تحريك جيشها داخل أرضها ولو لاجراء مناورات، ويجبر القاهرة على تزوير هويتها، ويمنعها من احتضان القضية الفلسطينية (التي ضربها كامب ديفيد في قلبها)، ويحاول ان يعزلها عن اشقائها العرب ولا سيما قلعة الصمود الأخيرة: سوريا، ومعها لبنان.
ثم انه يريد ان يفرض عليها وبالإكراه مؤتمراً اقتصادياً تفيد منه اسرائيل أساساً متصدقة على مصر ببعض الفتات الذي لا يسمن ولا يغني من جوع..
ان الصمود هو طريق السلام، اما الاذعان فيؤدي الى اتفاقات يسيل فيها الحبر فوق الورق، ولكنها لا تصمد لأول هبة ريح، فكيف اذا كانت الريح بقوة التطرف الاسرائيلي ورمزه نتنياهو؟!