أما وقد توافق »المؤتمرون« على إجازة طويلة يرتاحون فيها من مناقشة البديهيات، ويريحون مواطنيهم من الاستماع إلى طروحاتهم المكرورة والمعادة، فلا بأس من الالتفات، ولو بطرف العين، إلى ما يجري من حولنا مما سيكون له تأثيره البالغ على أوضاع لبنان، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، على وجه الخصوص، حتى لو أصر بعض المؤتمرين على تجاهل بل وإنكار حقائق التاريخ والجغرافيا، في هذه المنطقة التي تضربها الزلازل في القلب والأطراف.
ذلك أنه بينما يعيش اللبنانيون داخل دوامة الخوف على وحدتهم الوطنية وسط الصراع على السلطة المتهالكة في دولة تهدها التصدعات الطائفية والمذهبية ولو مغلفة بالسياسة..
.. وبينما يغرق العراقيون في بحر دمائهم المهدورة ظلماً وعدواناً وسط أشلاء دولتهم التي أنهكها الطغيان فوفر للاحتلال الأميركي أن يأخذها منه وكأنه »وريثه الشرعي«، وها هو يسعى لحماية أمنه بالفتنة التي تكاد تجعل الشعب الواحد شعوباً شتى وأتباع الدين الواحد مذاهب مقتتلة والكيان مزقاً تتناتشها العناصر والطوائف والأعراق، مشاريع »دول« بالوهم..
… وبينما الفلسطينيون منقسمون، مرة أخرى، بين رئيس »سلطتهم« التي تكاد تكون بلا سلطة، وحكومتهم المنتخبة ديموقراطياً والمقاطعة دولياً والمحاربة إسرائيلياً، والمحاصرة بالعجز العربي…
في ظل هذه المعطيات جميعاً، أقدمت إسرائيل على الخطوة الأخيرة في مسيرتها لشطب هوية القدس العربية، إذ حوّلت معبر قلنديا إلى »نقطة حدودية« بحيث يمتنع على أبناء الضفة الغربية، بمن فيهم أبناء ضواحي القدس دخولها إلا عبر شروط تكاد تكون مستحيلة. لقد جعلتها »إسرائيلية« بالأمر و»الحدود الدولية« التي تجعلها خارج فلسطين (أي ما تبقى منها في الضفة الممزقة بالمستعمرات وجدار الفصل العنصري)..
.. وهذه تحية إسرائيلية رقيقة للقمة العربية التي عقدت ناقصة وأجهضت مقرراتها المعادة والمكررة قبل إكمال نصوصها.
للتذكير: قلنديا قرية مجاورة للقدس تقع على بُعد 11 كلم منها، كان فيها مطار دولي تحول بعد هزيمة 1967 إلى مركز للطيران الداخلي الإسرائيلي.
أما القدس العربية، أو ما تبقى منها، فيبلغ عدد سكانها، حتى هذه اللحظة نحو 235 ألف نسمة، منهم نحو 45 ألفاً في البلدة القديمة.. وقد تمكن حوالى ألفي إسرائيلي من الاستيلاء على عدد من المنازل فيها بالاحتيال والشراء بالإكراه، وأقاموا فيها، ومن بين هؤلاء أرييل شارون نفسه.
وقد صارت القدس الشرقية التي تضم الحرم القدسي (المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة) مجرد حي في مدينة يهودية كبيرة يبلغ عدد سكانها نحو 750 ألفاً. وهذه المدينة تضم القدس الغربية والأحياء اليهودية الجديدة المحيطة بها، فضلاً عن المستعمرات الأخرى التي تشكل في مجموعها ما يعرف
ب»القدس المتروبوليتانية«، والتي يخطط الإسرائيليون لتوسيعها بحيث يرتفع عدد سكانها إلى مليون ونصف مليون يهودي.
ويحمل سكان القدس العرب »هويات زرقاء« تخوّلهم حق الإقامة في المدينة لا حق المواطنة.. وترفض إسرائيل وجود أية مؤسسة فلسطينية في القدس، ولهذا أقفلت »بيت الشرق« الذي كان يديره الراحل فيصل الحسيني.
وكنيسة القدس هي أم الكنائس المسيحية لأنها أول كنيسة في العالم، وفي القدس أيضاً تقع كنيسة القيامة وقبر السيد المسيح. وقد تناقص عدد المسيحيين في المدينة المقدسة بطريقة مأساوية، إذ كان عددهم سنة 1967 نحو 25 ألفاً، وكان من المفترض أن يكون اليوم، بحكم التزايد الطبيعي ستين ألفاً، لكنهم في الواقع حوالى عشرة آلاف، والسبب الأول في هذا الانخفاض هو الهجرة بالدرجة الأولى.
أما الأحياء العربية الملاصقة للقدس أو المجاورة لها فهي: الطور، بيت حنينا، العيسوية، صور باهر، شعفاط، الشيخ جراح، راس العامود، كفرعقب، بيت صفانا.
وأما المستوطنون اليهود في القدس الشرقية فيبلغ عددهم اليوم نحو مئتي ألف، وأشهر أحيائهم: تالبيوت، رامات اشكول، نفي يعقوب، سنهدريا والجامعة العبرية…
وأما المستعمرات المحيطة بالقدس فهي: معاليه أدوميم، بسعفات زئيف، راموت ألون، غفعات زئيف وألمون.
ومع إقامة جدار الفصل العنصري فقد باتت القدس كلها داخل المناطق »الإسرائيلية«، وهو يفصل القدس عن ضواحيها… والجدار يُخرج نحو مئة وعشرين ألف فلسطيني من نطاق القدس، ما يجعل اليهود الأكثرية في المدينة!
وقد أنشأ الإسرائيليون الحي اليهودي داخل المدينة القديمة، وضموا جبل أبو غنيم (مستعمرة هارحوما) الى النطاق البلدي للمدينة.
لماذا استعادة هذه المعلومات المرشحة لأن تغدو من الذكريات؟
لأن الأوضاع العربية السائدة تنذر بتفكك الكيانات السياسية القائمة، والعراق شاهد وشهيد، في حين يمكّن العدو الإسرائيلي لنفسه في أرضهم، بينما الاحتلال الأميركي يساوم العراقيين على أمنهم وسلامتهم مقابل وطنهم ودولتهم.
ولبنان مهدد في وحدته كما في دولته إن لم يتنبّه أهله إلى المخاطر التي تحيق به، والتي لم تنفع »الديموقراطية بالأمر« في صدها، لا في فلسطين المهددة بالتذويب المنهجي، ولا في العراق المدفوع إلى التفكك إرباً بذريعة تأمين العناصر ومن ثم الطوائف بعضها من البعض الآخر.
إن مثل هذه الوقائع يجب أن تنير الطريق أمام مؤتمر الحوار والقيادات السياسية المشاركة فيه، والتي تضيع وقتاً ثميناً في مناقشة البديهية بحيث يتحوّل الحوار إلى مماحكة مكلفة، بينما المخاطر داهمة، والدم المراق في الصراعات المفتعلة يكاد يعمي العيون عن مصدره الحقيقي.
للتذكير فقط نشير إلى أن الكونغرس الأميركي قد أقر، في 30 أيلول 2003، قانوناً يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل…
.. والكونغرس جاهز لقرارات اعتراف بعواصم أخرى لدول جديدة تزيد من تفتيت هذه المنطقة بحيث تغدو مجرد محميات أميركية وإسرائيلية على حساب وحدة شعوبها وحقها في الحياة بهويتها الأصلية.
هل من الضروري الاعتذار عن الخروج على المواضيع المحددة للحوار، بينما المتحاورون في إجازة من تعب الكلام؟!